(١) ذكرنا فى المقال الفائت أن المرشد «عاكف» بدلاً من أن يسير فى الاتجاه الصحيح نحو علاج ومواجهة المشكلات التى ألمت بالجماعة، خاصة خلال الفترة التى تولى فيها منصب المرشد، إذا به يفاجئ الإخوان بإلقاء خطاب يعلن فيه رحيله أو استقالته من المنصب قبل نحو شهرين من انتهاء فترة ولايته الأولى التى تنتهى فى ١٤ يناير ٢٠١٠.. وقد عنون الخطاب بعبارة «سعياً للوفاء بما قطعت»، مؤكداً إعلانه السابق بعدم ترشحه لفترة ثانية.. كان الرجل يقرأ من ورقة أمامه، وكان من الواضح أن شخصاً ما قد صاغه له.. وقد ظهر لى بعد أيام قليلة من إلقاء الخطاب، أنها كانت مسرحية أراد بها أن يسترد كرامته التى أهدرت من قبل أعضاء مكتب الإرشاد الذين رفضوا بإصرار طلبه ورجاءه الملح بتصعيد الدكتور عصام العريان إلى عضوية المكتب، رغم أحقيته فى ذلك.
(٢) فى خطابه، قال المرشد: أيها الإخوان.. اعلموا أن جماعتكم ودعوتكم منصورة بإذن الله، ولكن هذا يتطلب العمل الجاد الدؤوب، فلا تخافوا المستقبل واقتحموه، وبما لديكم من طاقات بشرية ضخمة تعتمل عناصرها فى كل مجالات الحياة، الحرفية منها والمهنية والأكاديمية، وأعملوا فى قلوب الناس أخلاقكم ومبادئكم لتكونوا الشامات التى تؤثر بالفعل لا بالقول، وتبنى النفوس وتشيد صروح الأخلاق المقاومة لكل فساد واستبداد وتخلف.. وقاوموا ما استطعتم بدروع الحب فى الله والأخوة الصادقة كل سهام الفرقة وأمراض التقزم وآفات التشتت، فإنما انهزمت أمتنا يوم تفرقت، ولن يعود مجدها إلا ساعة يسود نسب الأخوة «إنما المؤمنون إخوة».. (لاحظ عزيزى القارئ أن الرجل تحدث عن جماعة الإخوان كأنها الجماعة الوحيدة التى تعمل فى حقل الدعوة، وأنه لا يوجد غيرها من الجماعات والتنظيمات.. هذا برغم الاعتقاد الذى كان سائداً بيننا منذ فترة السبعينات أن جماعة الإخوان ليست جماعة المسلمين، وإنما هى جماعة من المسلمين).
(٣) ثم استطرد قائلاً: أيها الإخوان.. مما لا شك فيه أن الكبار يستطيعون المواجهة، وأن العظماء يرون أن النصح والنقد أسمى عطاء يوجه إليهم، وهذه لم تكن يوماً من صفات المستبدين والطغاة، الذين يرون كل صيحة عليهم مؤامرة ويسمون كل نقد لسياساتهم مكيدة، ويديرون لأبناء جلدتهم الظهور بينما يفتحون أذرعهم وأحضانهم للأعداء، ولا حرج عندهم فى أن تكون منازلة الخصوم السياسية محكومة بعصى العسكر وقوانين الجور ومحاكم الاستثناء والاستقواء بالخارج على داخل استؤمنوا عليه، فأى صغار فى هذا وأى إكبار فيمن ارتضى أن يكون بوق الحق فى وجه الجور يصدح به، فيعتقل ليثبت أو يسجن فيخلو لربه ويحارب فى رزقه وقوته فيهتف بيقين آمناً بربنا هو حسبنا ونعم الوكيل «أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون».. ولا يظن سائر على درب الإصلاح أن طريق الحرية مفروش بالورود أو أن أشواك الطريق تحول دون مواصلة السير لأن صفحات التاريخ تؤكد أن مواجهة الطغاة كلما دنت نهايتها اشتد وطيسها وغلى ثمن سلعتها، وصار كل نفيس دون الحرية هيناً.
(٤) ثم قال: وإن كنت أودع اليوم إخوانى، فإنى لا أنسى ما يصيبهم فى سجون مصر وغيرها من استهتار بحريات الناس وأرزاقهم، لكن جماعة تدفع ما يدفع الإخوان من ضريبة السير على درب الإصلاح لن تضام يوماً «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين».. وأخيراً.. أقول للناس جميعاً.. هذا درب الإخوان، يحملون فيه لواء الإصلاح، وتطوير آلياتهم ويمدون للجميع أيديهم، ويدفعون ضريبة صدعهم بالحق عن طيب خاطر، لا يمنون ولا يستكثرون.. جماعة تحمل الخير وتسير على خير وحالها بخير إن شاء الله، لا أخشى عليهم الجمود، فدماؤهم متجددة، وخطواتهم واثقة، ودرعهم حب الناس وثقتهم فيها، ومن يرى غير ذلك أقول لهم «تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين».. (وهذا استشهاد فى غير موضعه تماماً، إذ هو متعلق بعيسى -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام- والحوار الذى دار حول قضية خلقه).
(٥) وفى النهاية اختتم المرشد خطابه، قائلاً: وأفوض أخى الدكتور محمد حبيب، النائب الأول للمرشد العام، فى تسيير شئون الجماعة لحين اختيار المرشد العام الجديد.. وإن كان من صواب فى كل ما كان من أمرى فمن الله، وإن كان من تقصير أو نقصان أو خطأ فمن نفسى، ولله الأمر من قبل ومن بعد.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.. القاهرة فى: ٢٩ من شوال ١٤٣٠ ه - ١٨ أكتوبر ٢٠٠٩ م.
(٦) وقد أراد المرشد بهذا التفويض أن يعطى انطباعاً أنه استقال فعلاً من منصبه، وأنه سيغادر موقعه قبل استكمال فترته الأولى بشهرين على الأقل.
(٧) وكان السؤال الذى تبادر إلى ذهنى هو: لماذا قام المرشد بترحيل إعادة صياغة الخطاب من الأحد إلى الثلاثاء مع أن المسألة لا تحتاج سوى دقائق؟ لقد رفض الرجل تأجيل عرض الخطاب يوماً واحداً لحين اجتماع مكتب الإرشاد، فهل أراد أن يعطى لنفسه فرصة التفكير فى الأمر؟ أم أراد كعادته أن يمنح أعضاء مكتب الإرشاد والآخرين فرصة أن يذهبوا إليه وتنساب دموعهم أمامه كى يتنازل عن الاستقالة؟ فى اعتقادى، لم يكن المرشد صادقاً فى استقالته؛ فقط كان يريد استعادة كرامته المسلوبة التى أهدرها أعضاء المكتب، وكنت على يقين أنه يقوم بتمثيل دور مسرحى -ميلودرامى- فى محاولة لجذب أنظار المشاهدين إليه والتعاطف معه، فهذه هى طبيعته التى لا تنفك عنه فى أى مأزق يضع نفسه فيه، وهو فى الوقت ذاته يتفق مع شخصيته الكوميدية التى لا تجد غضاضة أو حرجاً فى أن تدعى أنها كانت تهزل حال ضبطها متلبسة بتصريح أو موقف مناقض لما كان متفقاً عليه!!! (وللحديث بقية إن شاء الله).