fbpx
سياسةتحليلات

مصر: مبادرة أيمن نور وصدمة النموذج الإسباني

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

هل ردود الأفعال الرافضة للمبادرة التي تقدم بها السياسي المصري أيمن نور تعكس استمرار الاستقطاب؟

لقد تفضلت بعض الشخصيات الأكاديمية المصرية البارزة بتقديم قراءة في بعض ردود الأفعال، ترى أن الأمر يتعلق بالاستقطاب، لكن تقدير الباحث في هذا الإطار يرى أن الأمر لا علاقة له بالاستقطاب، وهو ما سنتعرف عليه من خلال القراءة في الأدبيات التي سبقت ردود الأفعال الرافضة، والتي ربما أراد منتجوها إرسال رسالة بعدم الانسياق وراء ردود الأفعال المباشرة، وتقديم قراءات أكثر اقترابا من قيود الحالة المصرية، والضغوط الواقعة على “مجالها العام”، إن جاز أن نسمي المشهد السياسي المصري اليوم بأنه “مجال عام”.

سبق لرموز معارضة الداخل أن قدمت اجتهادات من مختلف الفصائل، ليبرالية وناصرية ويسارية وحتى اجتهادات من رموز “دولية”؛ انتمت يوما لمواقع قيادية في القوات المسلحة المصرية، وقامت السلطات المصرية بمواجهة هذه المواجهات والاجتهادات بالسجن، بل ومارست التدليس بحق هذه القيادات وأدوارها ونشاطها العام باتهامها بإثارة الأكاذيب، أو العمل لصالح جماعة وصفتها مؤسسات الدولة بأنها غير شرعية، أي جماعة الإخوان، بالرغم من أن تاريخ رموز المعارضة هؤلاء يقطع باستقلال رأيها، ونبل مقصدها.

خريطة ردود الأفعال في الداخل ربما تكون معروفة سلفا، لكن الجديد فيها موقفان، أحدهما عن التوجه الليبرالي وثانيهما يساري ذو توجه ليبرالي اجتماعي، اتسم رفضهما بالراديكالية، وحمل روحا واحدة بدت وكأنها (كلاشيه). وتبحث هذه الورقة في حقيقة الموقف الرافض لهذين التوجهين.

حول المبادرة وردود الفعل

غداة إعلان نتيجة الاستفتاء “غير الدستوري” على التعديات الدستورية التي تقّدم بها عدد من النواب المصريين، تقّدم السياسي المصري بمبادرة دعا فيها 100 شخصية مصرية في الداخل والخارج لبدء حوار وطني بهدف “إنقاذ مصر وتشكيل بديل وطني مقبول داخليا وخارجيا”، وأكد في دعوته أنها لا تعني تشكيل تحالف سياسي أو كيان موحد للمعارضة، وأنها محض دعوة الشخصيات الوطنية إلى حوار في أقرب وقت، دون أي شروط مسبقة”.

رأى “نور” في مبادرته أن ثمة فرصة كبيرة أمام المعارضة المصرية لتوحيد صفوفها بعد انتهاء ما وصفها “مهزلة الاستفتاء على تعديل الدستور”. ورغِب “نور” في استثمار الوعي والغضب الشعبيين من ممارسات النظام وسياساته؛ التي يراها تأخذ الجميع نحو الهلاك، لبناء نموذج حواري قادر على التواصل مع رجل الشارع المهموم بسؤال “ما بعد الاحتجاج”. اكتفى “نور” بتحديد أسماء 100 شخصية مصرية من معارضي الداخل والخارج، منهم عمرو حمزاوي، ومحمد البرادعي، وعماد عبد الغفور، وإبراهيم منير عن المصريين المهجرين. هذا بالإضافة لنماذج داخلية مثل أبو العلا ماضي، وهيثم محمدين، وأحمد ماهر، وعلاء عبد الفتاح، وزياد بهاء الدين، وعبد العظيم حماد، وأحمد شفيق، وحمدين صباحي كنماذج للتوجهات المختلفة بالداخل، هذا بالإضافة إلى أعضاء البرلمان الحالي أحمد طنطاوي، وهيثم الحريري، وطلعت خليل، وضياء الدين داود، وهي صورة كافية لتوضيح عموم توجه المبادرة. ولكنه أكد أن دعوته ليست منغلقة على هذه الشخصيات فقط، بل منفتحة على جميع من لديهم أفكار وتصورات تساهم في “إنقاذ الدولة المصرية”[1].

وقد انقسمت ردود الأفعال حيال المبادرة بين اتجاهات عدة، يمكن رصدها فيما يلي:

الاتجاه الأول، قطاع من النخبة المدعوة وافق على الدعوة[2]. وإن كان منهم من احتج على تضمين المبادرة أسماء غير معروفة، أو لم يتمكن مدعوون من التواصل معها من قبل.

الاتجاه الثاني: المدعوون من “جماعة الإخوان”، الذين رفضوا نسبة تمثيل الجماعة ضمن المبادرة، وهو تمثيل لم يتجاوز الرموز الثلاثة.

الاتجاه الثالث: رفض المبادرة رفضاً قاطعاً بالاستناد لرفض أي مشاركة من معارضة تُقيم في الخارج، وقطاع من أصحاب هذه الرؤية ربط الرفض كذلك بوجود مدعوين إسلاميين بالمبادرة.

الاتجاه الرابع: رفض المبادرة رفضاً قاطعاً بالاستناد إلى وجود إسلاميين بالمبادرة.

الاتجاه الخامس: رفض المشاركة في الحوار على أرضية انسداد أفق الحوار مع مشاركين يتمسكون بعودة الدكتور محمد مرسي[3].

الاتجاه السادس: نبه أيمن نور إلى أن الرفض مرده إلى واقع القمع والتربص الأمني في مصر، وطالبه بالبدء بتوحيد توجه معارضة الخارج[4].

الانكفاء على بناء الذات

لا شك أن الحالة المصرية تعاني من حالة جفاف سياسي غير مسبوقة، ربما تفوق في جفافها الفترة الناصرية، وإطلالة واحدة على أي تقرير حقوقي، وأبسط استماع أو قراءة لأي من تقارير وسائل الإعلام المستقلة، أو مطالعة وسائل التواصل الاجتماعي يصرخ بهذه الحقيقة المفزعة. وفي هذا السياق، لا يمكن الحكم على تفاعلات المشهد السياسي المصري وكأن معارضة الداخل، التي تتحرك تحت “حد المقصلة”، بقدر ما إن معارضة الخارج تعاني الغربة وافتقار الأهل، وتحرم من حضور جنازات المتوفين من عائلاتها، أو من مساندة الذين يعانون من أقربائهم، وفي هذا من الابتلاء ما يجعل الطرفين يكنان لبعضهما قدرا من التقدير، أولى درجاته ألا ننصرف لتقديم قراءة تقليدية في ردود الأفعال.

وقد أشار الدكتور حسن نافعة في مقالة له بصحيفة “القدس العربي” إلى عاملين بالغي الأهمية في تفسير ما حدث. العامل الأول يتعلق بالاستقطاب المزمن في أوساط المعارضة المصرية، بين إسلامييها وعلمانييها. غير أن العامل الأهم الذي يمثل برأي الباحث أحد أبعاد الموقف المعارض، يتمثل في خشية معارضة الداخل من الاتهام “بالعمل لحساب جماعة الإخوان” أو الاستقواء بالخارج”[5].

وفي تقدير الباحث، فإن العامل الأول الذي ذكره نافعة، والمتعلق بالاستقطاب، قد يكون حاضرا، لكن وزنه بالغ الضآلة مقارنة بالوزن المرتفع نسبيا للعامل الثاني المتعلق بالتخوفات التي تحكم موقع المعارضة. فالأذرع الإعلامية لم تتورع عن اتهام ناشطين يساريين ورموز ليبرالية وناصرية بأنهم “خلايا إخوانية نائمة”. هذا العبث المفروض على المشهد المصري قسرا يفرض إجراءات احترازية في التعامل مع المجال العام.

ومن هذه الإجراءات الاحترازية تبدأ قراءة الباحث للأحداث ولبعض الكتابات التي نادت الأحزاب المصرية بالعمل على بناء ذاتها تنظيميا وبرامجيا، وعدم الانجرار إلى مواجهات تنهكها وتستنزف موارد قوتها. لقد مرت الدعوة للاصطفاف في مصر بمراحل عدة، وكان من بينها مرحلة تدفقت فيها تضحيات رموز كبار في المكانة والسن، قدموا دعوات اصطفاف أو استجابوا لدعوات اصطفاف أو قدموا اطروحات إصلاح، وانتهى بهم الأمر جميعا إلى غياهب السجون. ومع الوفاء لتضحيات هذه الرموز وقيمتها المعنوية، فإن النخبة المصرية اكتفت ببذل هذه التضحيات كبرهان لعموم المصريين على التضحية، وبدأت تدعو لبناء حركة اجتماعية.

وفي هذا السياق، كانت ردود قطاع من رموز المعارضة المصرية محددة وقاطعة حيال مبادرة الدكتور أيمن نور، وتؤكد أنه لا انجرار أو استدراج لمزيد من المواجهات التي لا تؤدي إلا لتجريف العقل المصري، على نحو ما سنرى تاليا.

ومن جهة أخرى، يرى وجوه هذه الدعوة أن محاولات الاصطفاف هي محض وهم بدون توفر قدرات ذاتية للقوى الليبرالية. هذه الدعوات غير ثورية، وتقوم على الإعداد عبر الفصل بين طرح الفكرة وعملية بناء الذات، وتعمل الرؤية في “الأجل الطويل”، والذي يصل عند بعض رموز هذه الدعوة – وفق قراءته للتاريخ – إلى عقدين.

وتبدأ القراءة من مقال الكاتب المصري البارز “عبد العظيم حماد”، والذي – في أعقاب المبادرة – اتسم رده بالحدة والتأكيد على التزامه الحزبي (الحزب المصري الديمقراطي)، وأحال إلى أفكاره الواردة بمقالاته وكتبه[6]. وبالنظر لهذه الإحالة، وفي الموقع الجديد لـ”مدى” مصر”، كتب “حماد” مقالا حمل عنوان “الخطأ المتكرر للمعارضة المصرية بعد 30 يونيو 2013″، أوضح فيه أن المعارضة المصرية (غير الإخوانية أو السلفية، التي لديها بدورها – برأيه – أمراضها العضال)، قد أصيبت بمرض جديد بعد 30 يونيو 2013، تمثل في “قصور نظر غير إرادي”، يعكسه نموذج التفكير بالتمني، أدى بالمعارضة إلى عدم التقدير الكافي لعزيمة رأس إدارة 3 يوليو على فرض رؤيته على الجميع، واعتزامه استخدام كل الأدوات لتنفيذ تلك الرؤية دون قيد من مشاركة، وأنه لا تنقصه العزيمة ولا القدرة على السير وحده، وإبقاء كل الآخرين على الهامش، وهو ما أودى بهم للفشل الميداني المرة تلو الأخرى لأنهم توقعوا “انتخابات مفتوحة”، ويرى أن موقف المعارضة المصرية من التعديلات الدستورية تكرار لنفس الخطأ.

نفى “حماد” أن يكون حديثه مقصود منه “أنه لا جدوى من المعارضة”، ودعا المعارضة لقراءة تجربة حكم الجنرال “فرانكو” في إسبانيا، والتي – برأيه – تشابه تجربة “3 يوليو” في مصر”، حيث صمم الحاكم العسكري على المضي قدما بمفرده، برغم قوة الأحزاب في إسبانيا مقارنة بالحالة المصرية الراهنة. لفت حماد إلى أن الاحزاب الإسبانية – لشعورها بقوتها – خاضت حربا أهلية ضد فرانكو، ولم تستطع مواجهة الجنرال في إطارها.

لفت “حماد” إلى عمل هذه الأحزاب لدعم ذاتها وبنيتها، ما جعلها مؤهلة للتأثير والعمل، بل والفوز بالانتخابات بمجرد انتهاء حقبة فرانكو. وأشار حماد إلى أن “الأحزاب الإسبانية استثمرت تلك الحقبة في البناء التنظيمي والبرامجي طويل الأجل، ولم تستنزف قواها في مواجهات احتجاجية تجهض هذه الجهود، أو في الرهان على مرونة من النظام قد تأتي، وقد لا تأتي”. ويرى “حماد” أن المعارضة المصرية الضعيفة والمفتتة أولى بهذا النموذج من أحزاب إسبانيا”.

يؤكد “حماد” أن قضية التعديلات الدستورية المصرية، وما كشفته من حقائق وما قضت عليه من أوهام، قد وفرت مناسبة جديدة للاهتمام العام بالسياسة مرة أخرى، ومن ثم وفرت فرصة قد لا تعود قريبًا لبناء حركة حزبية قوية، بما يكفي لتغيير معادلة الحكم والسياسة في مصر “عندما يحين الوقت”.

وفيما أشار حماد لمقولة رأس نخبة 3 يوليو من أن مصر تحتاج 25 سنة على الأقل لإنجاز التحول الديمقراطي، فقد عاد “حماد” للتاريخ، وأضاف أنه يلزم المعارضة المصرية عقدين من الزمان لتنفيذ بنائها لذاتها، حيث اقتضى الأمر في مصر أكثر من ثلاثة عقود لكي تندلع ثورة 1919 بعد هزيمة الثورة العرابية، وكان لا بد من مرور عقد كامل على حادث السردار، وإبعاد سعد زغلول عن رئاسة الحكومة، ثم وفاته لكي تندلع ثورة الطلبة في عام 1935، لتفرض قيام الجبهة الوطنية وإعادة دستور 1923، كما مر أكثر من عقدين على هزيمة ثورة مصدق في إيران لكي تندلع ثورة جديدة، وفي الجزائر كان لا بد من مرور عقدين على انتهاء العشرية السوداء لكي يحدث الحراك الجزائري.

يرى “حماد” أن هذه الفترة تتيح الفرصة لنمو “جيل جديد” متحرر من عقدة هزيمة الثورة، فيما تكون الأجيال التي لقيت الهزيمة قد «هضمت» تلك الوجبة العسرة، واستخلصت دروسها، وتخلصت من بقاياها، بحيث لا تشكل عامل خذلان للجيل الجديد، بل ويمكن أن تسانده لتحقق من خلاله أحلام شبابها، في حين يكون النظام نفسه قد أصيب بالإجهاد وفقد زخم التأييد الشعبي، وذلك دون أن يكون التغيير القادم ثورة جديدة بالضرورة، بل يكفي أن يكون حراكًا سلميًا منظمًا ومستدامًا لتغيير المعادلة[7].

لم يكن “حماد” وحده من طرح هذا الحل باعتباره بديل المستقبل، بل رافقه في ذلك الأكاديمي “عز الدين شكري فشير، الذي نشر رؤيته في مقاله على موقعه الخاص، والذي لجأ إليه لأسباب تتعلق بالضغوط الأمنية، حيث يسهل تغيير رابطه، وتداول الرابط الجديد على منصة “تويتر” التفاعلية.

أكد “فشير” على أن مصر تقف اليوم في القاع، لأن معارضتها بلا تنظيم، في توقيت أدت فيه هزة 2011 – 2013 إلى عودة الاستبداد بصورة حولت مصر لسجن كبير أدى لتفشي اليأس في الحياة العامة؛ والخاصة معا، وانحسرت توقعات “معظمنا” إلى الحد الأدنى. وجه “فشير” الدعوة للديمقراطيين الليبراليين – من دون إقصاء داخلي بينهم – إلى العمل الاستراتيجي، مؤكدا “أن مصر لن تقوم ما لم يكن الليبراليون قادرين على قيادة القطاعات الوسطى والفقيرة من الشعب”، وارتأى أن هذا الأمر يتطلب أن يكون لليبراليين قواعدهم المستقلة، لئلا يضطروا للتحالف مع قوى غير ديمقراطية (العسكريون -الإسلاميون) تحت ضغط قواعد اللعبة؛ التي يراها غير عادلة[8].

قدم فشير – كذلك – رؤية تاريخية لمسار خطاب “المقرطة”، ليخلص منها إلى أن المستبدين لا يولون الديمقراطية بالا، ولا يعينون الجماهير في اتجاه التعلم واستيعاب التحديات التي تواجههم، ولن يتخلوا عن السلطة طواعية. يلفت “فشير” إلى أن الخطاب الديمقراطي الفوقي انهار أكثر من مرة في تاريخنا تحت وطأة “الاحتلال البريطاني” الذي هدم ثورة عرابي، وثورة 23 يوليو التي هدمت ديمقراطية “الباشوات” الذين أدى تمسكهم بمصالحهم الضيقة إلى تسرب تأييد القواعد للمؤسسة العسكرية و”الإخوان”. ويخير “فشير” الليبراليين المصريين بين خيارات ثلاثة: إما الاستسلام للعجز، أو مساندة أي من الفريقين المنظمين (العسكريين -الإسلاميين)، أو أن يبنون قوتهم الخاصة[9].

وكان “فشير” قد نشر مقالا في فبراير 2019 على مدونته، كشف فيها عن اعتباره أن دعاوى الاصطفاف والتحالف لإسقاط “النظام” هي “كلام فارغ”، لأن المعارضة غير متساوية في القوة، وأن سقوط النظام يعني أن الأقوى تنظيما سيهيمن، ويجر متاعب جديدة[10]. هذه التجربة التي لها سوابق نجاح مهمة، أبرزها “حركة شباب السادس من أبريل”، تعكس رؤية الشباب الليبرالي الصاعد للتغيير، وربما كشفت عن سبب تلكؤ بعض قطاعات الشباب في الاستجابة لدعوات الاصطفاف.

وتعود بنا كتابات حماد وفشير إلى ما قبل 2011، حيث تمكنت قوى شبابية مصرية من بناء قواعد لها بالاستناد للحركات الاحتجاجية المتفرقة، وتمكنوا بعد ذلك بسنوات من أن يشكلوا رقما في معادلة يناير 2011، ولعبوا دورا قويا في 30 يونيو؛ إلى أن انقلبت عليهم “عصبة 3 يوليو”.

هل سقط التوافق؟

بخلاف ما أشار إليه الدكتور حسن نافعة، فإن الخطاب المطروح لم يتخل عن طرح التوافق، لكنه دعا لتوافق بين قوى متساوية و”منظمة”، لئلا يؤدي امتلاك بعض القوى لركائز التنظيم والعدد إلى الإخلال بمعادلة التوافق المستقبلية. لكن هل هذا الطرح – طرح الباحث بعدم غياب التوافق – محض طرح نظري، أم له شواهد من كتابات أصحاب هذه الدعوة؟

أ. التوافق في التجربة الإسبانية:

بناء الذات في الأجل الطويل، والذي يبلغ عقدين لم يكن طرحا رافضا لطرح التوافق، فصائغو هذه الأطروحة يعلمون أن قوى متساوية بدون توافق تعني الخسارة مجددا، بل ستعني الخسارة الأكبر، لأن عدم التوافق على مشروع ديمقراطي يؤدي لمنح الفرصة لخصوم المشروع الديمقراطي بالفوز مجددا، وهو فوز لن يعني سوى تصفية القوى الديمقراطية بعدما خرجت للعلن في صورة قوة منظمة. وربما كان النموذج الإسباني يتيح تأمل مسار التوافق الذي بني طيلة عملية بناء الذات. التأكيد على هذا الأمر لم يأتنا في 2019، ولم يأتنا من عبد العظيم حماد، صاحب طرح “النموذج الإسباني”، بل أتانا من عام 2012، حين كتب المفكر القبطي سمير مرقس سلسلة مقالات (6 مقالات) في عام 2012 عن “التجربة الإسبانية”، كلها أكدت على الطبيعة التوافقية للنموذج الإسباني، ومنها مقاله “كيف صاغت إسبانيا دستورها”[11]. وقراءة موجزة في النموذج الإسباني تكشف كيف أن الساسة الإسبان كانوا قد طوروا توافقا طفا إلى السطح قويا راسخا مع وفاة الجنرال فرانكو في 20 نوفمبر 1975، على الرغم من تحول إسبانيا إلى النظام الملكي الدستوري، بل إن الملك بنفسه قاد الجيش لمواجهة تمرد فبراير 1981 الأمني الذي كان يطالب بحكومة مدعومة عسكريا.

وبرغم البون الشاسع، بين طرح “فشير” والتيار الإسلامي، فإن “فشير” يطرح في مقاله (كيف نتعامل مع القوى غير الديمقراطية؟) التساؤل: “هل يعني هذا ألا نتحالف مع القوى غير الديمقراطية؟” – مع تحفظي على توصيفه عموم الإسلاميين بأنها قوى غير ديمقراطية، ويجيب: “نعم؛ لا نتحالف مع قوة غير ديمقراطية، إلا حين يكون لدينا القوة التي تضمن تنفيذ تعهدات الخصم الذي نتحالف معه. في غياب هذه القوة التي تضمن التزام الطرف الآخر بتعهداته، لا يكون للتحالف معنى. وفي هذه الحالة فإن دعوات “توحيد القوى” تكون في حقيقتها دعوات للاصطفاف خلف غيرنا، ودعمهم في صراعهم مع الطرف الآخر حتى ينتصر ويأكله ثم يحلي بنا”. ويستطرد: “التحالف مع الاخوان في ٢٠١١-٢٠١٢ تبين أنه خطأ، لأننا لم يكن لدينا مثل هذه القوة”[12]. خطاب “فشير” المستقبلي لا يتحدث فقط عن توافق، بل تحالف، لكنه تحالف من موضع التكافؤ.

ب. رفض الطعن على معارضة الخارج:

لم يكن التوافق القضية الوحيدة التي لم تغب عن ساحة النقاش فيما يتعلق بالاصطفاف. فقد شهدت ردود الأفعال حول المبادرة خلافا حول قضية المعارضة من الداخل والمعارضة من الخارج، حيث رصد الباحث اتجاها بين معارضي الداخل والخارج يتحفظ حيال المعارضة من الخارج[13]، كما رصد أصواتا من الداخل ترفض المزايدة على معارضة الخارج، وكان من بينها المحامي الحقوقي جمال عيد، الذي – برغم موقفه العام من الإسلاميين كخطاب وكممارسة سياسية – إلا أنه رفض ان يخضع الموقف السياسي للمزايدة على أرضية التواجد داخل الحدود أو خارجها، حيث أكد جمال عيد أن المعيار هو بذل الجهد لأجل إزاحة الغمة، لا من أجل التمايز والتفاخر[14]. وأكد في موضع آخر أن معيار المفاضلة هو الموقف السياسي وليس الموقع الجغرافي، ملمحا إلى أنه يتخذ هذا الموقف حتى لو كان رافضا لما أسماه “أنصار الحكم الديني”، واختتم حديثه بقوله: “انا مش بس ضد المزايدة على من تركوا مصر اضطرارا، بل أنا متعاطف معهم”[15]. وبالرغم من أن غالبية متابعي المحامي الحقوقي يتوجهون نفس وجهته المدنية، إلا أن هذا لم يمنع من وجود روح تهكمية لديهم حيال المزايدة ضد معارضي الخارج، ما اعتبروه استسلاما للصيغة التي تفرضها السلطات الجاثمة على صدر مصر”، معتبرين أن معارضة الخارج لم تخرج بإرادتها، بل بحثا عن الأمن في مواجهة سلطات لا تلتزم بالقانون. ووجه المتابعون اللوم لمن يريد التغيير السياسي في مصر عبر اتباع القواعد التي يرغمنا عليها “أعداء التغيير”.

غير أن التمييز بين معارضة الداخل والخارج لم يخل من معالجة إيجابية، تقدم بها الكاتب والإعلامي المصري محمد عبد القدوس، حيث طمأن الدكتور أيمن نور حيال مبادرته، موضحا أن ردود الأفعال لا تعني رفض المبادرة، مذكرا إياه: “يا صديقي العزيز خلّي عندك شوية نظر!! مستحيل في ظل الظروف الأمنية الصعبة التي تحكمنا أن يحدث أي حوار على نطاق واسع، فالاستبداد الجاثم على أنفاسنا لن يسمح بذلك ومن يجرؤ على هذا الأمر سيتم اعتقاله على الفور!”[16]، لكنه أضاف مطالبا “نور” بأن “يركز جهده على قوى المعارضة في الخارج فيحاول جمعها على كلمة سواء لأن أوضاعها حاليا “حاجة تكسف” منقسمين إلى فرق وأحزاب! فإذا استطاعت تلك المبادرة الجمع بين هؤلاء بمختلف اتجاهاتهم من المنتمين للتيار الإسلامي والمدني يبقى حقق شيء عظيم جدا”.

خاتمة

كان قدر المبادرة التي طرحها دكتور “نور” أن تأتي مع قرار تدشين هذه الحركة الجديدة، والواعدة بالنظر لتجارب التاريخ القريب. لا يمكن القول بأن هذه الحركة تعمدت إهدار المبادرة، وإن تضمن الاحتجاج ضد المبادرة بعض الأصوات التي اعترضت – فعلا بفظاظة – كما ارتأى دكتور حسن نافعة، وهو – ربما – ما دفعه للقول بأن خلفية الرفض استقطابية، لكن يمكن إيعاز هذه الفظاظة في الرفض لما سبق وأحيط بتهويل هائل من “الأذرع الإعلامية” من خلاف بين إدارة قناة الشرق والعاملين فيها، وهو ما يرجحه الباحث بالنظر لمهنة أصحاب الردود الفظة وانتماءاتهم الأيديولوجية، التي تضاعف من رفض أي علاقة عمل غير متوازنة.

الطبيعة الجديدة لمسار هذين المحورين من محاور القوى الديمقراطية كانت المحرك لصياغة هذه الورقة، حيث أمل الباحث ألا يتجه البعض لتفسير هذه الحركة باعتبارها معاودة للاستقطاب، وانهيار مشروع يناير، بالرغم من اتجاه بعض المعنيين به للحديث على هزيمته.

اتجاه التوجهين نحو العناية ببناء الذات، كذلك، لا ينبغي للبعض النظر إليه باعتباره خصما من قوتهم، بل هو صيانة لتلك القوة التي تهدر مع كل مبادرة تؤدي لتجريف ينابيع المجال العام المنشود عبر اعتقال عدد من الرموز المنادية بمستقبل أفضل، وعدد من أنصارهم، وهو ما يفضي بهم لظروف احتجاز غير حضارية يراها “عصبة 3 يوليو” تعبيرا عن “خصوصية حضارية”.

ومن جهة أخرى، فثمة كتل اجتماعية مصرية كبرى اتجهت “للاستثمار في علافتها بعصبة 3 يوليو” بالنظر لعدم وجود قوة “معتبرة” يمكنها تمثيلهم. هذان التوجهان يمكن أن يمثلا – في المستقبل – حاضنتين اجتماعيتين قويتين لهذه الكتل الاجتماعية، وهو ما يمكن اعتباره مدخلا لتفكيك القوى المستثمرة في الاستبداد، وهو ما من شأنه أن يقود لتخفيف الاحتقان الطائفي مستقبلا. لكن هذه الصورة المستقبلية الطموحة ما زالت تحتاج رعاية ذلك الجناح الذي كان قبل أيام يطالب بالاصطفاف، وهي رعاية ليست مادية وإنما ترتبط بتجديد الخطاب ليلائم المستقبل، ويمهد له الطريق[17].


الهامش

[1] المحرر، البرادعي وشفيق وموسى والإخوان. أيمن نور يدعو 100 شخصية لحوار إنقاذ مصر، موقع “الجزيرة نت”، 24 أبريل 2019. الرابط

[2] المحرر، سياسيون يرحبون بدعوة “نور” معارضين مصريين لحوار وطني، موقع “عربي 21″، 26 أبريل 2019. الرابط

[3] محمد مغاور، مبادرة أيمن نور تثير جدلا بالأوساط السياسية في مصر، “عربي 21″، 29 أبريل 2019. الرابط

[4] محمد عبد القدوس، مبادرة د. أيمن نور. أين الخلل؟، بوابة الحرية والعدالة، 7 مايو 2019. الرابط

[5] حسن نافعة، عن المعارضة المصرية في المرحلة الراهنة، صحيفة “القدس العربي” اللندنية، 1 مايو 2019. الرابط

[6] عبد العظيم حماد، ردا على أيمن نور، الحساب الشخصي على شبكة التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، 25 أبريل 2019. الرابط

[7] عبد العظيم حماد، الخطأ المتكرر للمعارضة المصرية بعد 30 يونيو 2013، موقع “مدى مصر”، 29 مارس 2019. الرابط

[8] عزالدين شكري فشير، بناء الديمقراطية من القاع، موقع “عزالدين شكري فشير”، 5 أبريل 2019. الرابط

[9] الإشارة السابقة. الرابط

[10] عزالدين شكري فشير، كيف نتعامل مع القوى غير الديمقراطية؟ مدونة “عزالدين شكري فشير”، 16 فبراير 2019. الرابط

[11] سمير مرقس، تحولات (6): كيف صاغت إسبانيا دستورها؟، صحيفة “المصري اليوم”، 4 ديسمبر 2012. الرابط

[12] عز الدين شكري فشير، كيف نتعامل مع القوى غير الديمقراطية؟ مدونة “عز الدين شكري فشير”، 16 فبراير 2019. الرابط

[13] عمرو حمزاوي، توضيح، الحساب الشخصي على شبكة التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، 2 مايو 2019. الرابط

[14] جمال عيد، هي مش مزايدة، الحساب الشخصي على شبكة التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، 28 أبريل 2019. الرابط

[15] جمال عيد، سئمت لحد القرف من المزايدين، الحساب الشخصي على شبكة التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، 28 أبريل 2019. الرابط

[16] محمد عبد القدوس، مبادرة د. أيمن نور. أين الخلل؟، بوابة الحرية والعدالة، 7 مايو 2019. الرابط

[17] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close