لم يكن الفيلسوف اليوناني "أفلاطون" يعلم شيئًا عن الجينات. إلا أنه دعا لإنشاء سلالة قوية وجميلة عبر زواج "الجميلات" بـ"الأقوياء". كما طالب بمنع الضعفاء والمرضى من الزواج؛ كي يُحافظ على المجتمع.

على بُعد قرون من ذلك العصر الذي عاش فيه أفلاطون، جاء العالِم البريطاني الشهير، فرانسيس جالتون، بفكرةٍ غريبة؛ إذ عمل على تحديد الأساس العلمي لتحسين النسل عبر صياغة مجموعة من العوامل في قانون يُحدد شكل المولود ونسب ذكائه وقوته البدنية. فشل -بطبيعة الحال- ذلك القانون في تحقيق مراده، إلا أن حركات بغيضة تُعرف باسم "اليوجينية" قررت إكمال المساعي لخلق جيل متفوق عبر الزاوج بين أصحاب "السلالات النقية". واجه العالم تلك الحركات، وبخاصة مع بزوغ نجم علم الجينات، الذي يُعد سلاحًا ذا حدين؛ إذ يُمكن استخدامه في مداواة البشر، أو زيادة هوة الفارق بينهم.

وفي عز تصاعُد الحركة اليوجينية، وُلد محمد سلامة، في سبعينيات القرن الماضي. بزغ نجمه في الرياضيات، وتنبَّأ له معلموه بمستقبل باهر مُتعلق بذلك العلم، إلا أن والدته كان لها رأيٌ مختلف.

فمنذ أنجبت أبناءها الأربعة، قررت أن تُقدمهم للمجتمع كأطباء. إذ كان حلمها أن يُصبح جميع أولادها "دكاترة". يقول "محمد سلامة" -في تصريحات خاصة لـ"للعلم"- إنه التحق بكلية الطب رغم حبه للهندسة نزولًا على رغبة والدته.

بعد أن أتم شهادته الجامعية، وفترة تدريبه القانوني، حصل على الماجستير من كلية الطب بجامعة المنصورة، ثم قرر السفر إلى الخارج ليكمل دراسة الدكتوراة في جامعة فيليبس ماربورج بألمانيا، ليحصل على الدكتوراة في تخصص الأمراض العصبية الجينية.

بعد عودته إلى مصر، كانت الطريق مُمهدةً أمامه لـ"فتح العيادة". غير أنه لم يكن ليفضل ذلك الأمر. يقول "سلامة" إن الطبيب يقع تحت ضغوط هائلة، ويضطر إلى العمل ساعات طويلة حتى يُحقق ما يُريد. كما أن هناك واجبًا أخلاقيًّا هائلًا يقع على الأطباء، "وأنا شخص لا أستطيع مطلقًا تحمُّل مسؤولية حياة الإنسان"، يقول سلامة مستطردًا: "أخاف من الأخطاء.. والأخطاء في الطب تقتل.. ولن أسامح نفسي مُطلقًا إذا ما أخطأت وكانت النتيجة حياة الإنسان.. الطب مهنة تحتاج إلى شجاعة خاصة وقدرة على التسامح مع النفس حال الخطأ، وهما أمران لا أمتلكهما".

قرر "سلامة" المخاطرة بكل شيء. بخبرته الأكاديمية السابقة، وممارسته السريرية، وتساءل عمَّا إذا كان ممكنًا أن يبتعد عن الطب ويُبحر في دنيا الأبحاث. واجهت أفكاره انتقاد البعض، وسخرية البعض الآخر، إلا أنه قرر في نهاية المطاف أن يبتعد عن الممارسة السريرية إلى الأبد، "كانت تلك مخاطرة كبيرة"، على حد قوله.

جائزة الجمعية الأمريكية للسموم لعام 2016 credit: Mohamed Salama

تمكَّن "سلامة" من الحصول على منحة كبيرة من الاتحاد الأوروبي، بغرض العمل على تقليل الفجوة بين البحوث الأولية والإكلينيكية في مجال أمراض الأعصاب، ومن خلال مجموعة منح دولية ومحلية بدأ في دراسة الجينات المسببة لمرض الشلل الرعاش في مصر.

في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بدأ العمل على قدم وساق في مشروع عالمي ضخم جدًّا، صُنف على أنه أضخم مشروع علمي طبي في التاريخ. مشروع "رسم خريطة الجينوم البشري".. كان هدفه الرئيسي رسم خريطة جينية كاملة، لحوالي 100 ألف جين عند الإنسان، لأهداف كثيرة علمية وأخلاقية، منها على سبيل المثال التعرُّف على طبيعة الأمراض الجينية، والتعرُّف أيضًا على طبيعة الطفرات التي تسبب أمراضًا خطيرة مثل السرطان وخرَف الشيخوخة. بعد حوالي 14 عامًا، وتحديدًا سنة 2003، أعلن العلماء عن انتهاء ذلك المشروع، ورسم الخريطة الجينية للبشر.

إلا أن ذلك المشروع لم يأخذ في الاعتبار جينات المصريين، وعلى الرغم من أن دراسة الجينات أداة طبية لفهم طبيعة الطفرات، وترتبط بالمجموعات السكانية المختلفة حول العالم، إلا أن معظم أبحاثها يعتمد على الخرائط الوراثية لأفراد من أصول أوروبية. وبالتالي، عدد محدود لا يكاد يُذكر من الأبحاث العلمية المرموقة، عمل فيه الباحثون على دارسة الجينات المصرية؛ إذ تُصمَّم معظم الدراسات أساسًا من أجل فحص الجينات الأمريكية والأوروبية. لكن، وقبل 4 سنوات، قرر باحث مصري من جامعة المنصورة، بالتعاون مع باحث مصري آخر يعمل في جامعة "لوبيك" الألمانية، إطلاق مشروع كبير لدراسة الجينات المصرية على وجه التحديد؛ تمهيدًا لعمل أول خريطة من نوعها، تشرح وتوضح طبيعة الجين المصري الفريد. كان ذلك الباحث المصري هو "محمد سلامة".

تمكَّن "سلامة" من إثبات وجود مجموعة من المتغيرات الجينية بين المصريين وجينات الجنسيات الأخرى. كما يواصل الآن الأبحاث من أجل دراسة أكثر تعمقًا واستقصاءً لتلك الجينات؛ لمعرفة المُسببات الجينية للأمراض المختلفة، بدايةً من السرطان، ومرورًا بباركنسون والشلل الرعاش، ووصولاً إلى معظم الأمراض التنكسية والعصبية.

credit: Mohamed Salama

وعلى الرغم من صعوبة تلك الدراسة وكثرة العقبات التي تواجهها. قرر سلامة الدخول في مشروع كبير آخر. إذ تمكن من توفير تمويل ضخم، بهدف عمل أول دراسة علمية عرضية، على نحو 50 ألف مصري، لمدة 10 سنوات كاملة.

في تلك الدراسة، التي تُعد هي الأخرى الأولى من نوعها على مستوى الشرق الأوسط وأفريقيا والعالم العربي، وضرروية من اتجاهات متعددة. يعمل الباحثون في تلك الدراسة على متابعة الحالة الصحية، والاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، لعينات البحث طيلة 10 سنوات كاملة؛ بهدف الوصول إلى معرفة الكيفية التي تغيرت بها أجسامهم عبر عقدٍ من الزمان. للمشروع -حال إكماله- نتائج في اتجاهات مختلفة، اقتصادية، وعلمية، وطبية، وقانونية أيضًا.

يعمل الباحثون في جزء من تلك الدراسة على فحص الحالة الصحية للوقوف على العمر المتوقع للفئة السكانية. وعند إتمام الدراسة يُمكن أن يصدر الباحثون ورقة مفصلة بـ"اللياقة الصحية" وفقًا للعمر، "في بعض الدول سُنت قوانين جديدة للتقاعد، فعوضًا عن الستين أصبح سن التقاعد 65"، يقول "سلامة"، وبالتالي يُمكن الاعتماد على تلك الدراسة لتحديد مجموعة من القوانين الخاصة بالعمل، والبيئة، والتأمين الصحي، وفترة المعاش.

كما ستقوم تلك الدراسة بتقديم نتائج متعلقة بالإجابة عن التساؤلات: "هل النظام الصحي والاجتماعي مؤهل لرعاية كبار السن؟"، "ما هي الاحتياجات الماسة في النظام الصحي المصري؟"، "ما هي سن الشيخوخة الفعلية للمصريين؟"، "ما هي البروتينات التي تتزايد مستوياتها في الدم خلال 10 سنوات؟"، وفق "سلامة".

يقول إن مشروعًا بهذا الحجم قادرٌ على إمداد الباحثين بمعلومات "تصلح لكتابة ورقة علمية على الأقل يوميًّا لمدة سنة كاملة". وهو نصر علمي فريد، يُضاف إلى الفوائد الاقتصادية والاجتماعية والقانونية لذلك النوع من الدراسات طويلة المدى، على حد وصفه.

يختتم "سلامة" قوله بأنه يأمل أن يحصل على دعم حكومي، "ذلك الدعم لا علاقة له بالأموال اللازمة للتنفيذ على الإطلاق.. فالدعم المالي موجود بالفعل.. لكنني أبحث عن الدعم القانوني والمؤسسي.. أحلم بتنفيذ ذلك المشروع الثوري، من أجل مصر، ومن أجل الإنسانية، ومن أجل أهلي ومواطني بلدي.. ومن أجل أولادي ونفسي".

أبرز انجازات العلماء المصريين في 2019