الخميس 2018/08/09

آخر تحديث: 16:41 (بيروت)

دروز المشرق: الأزمة الوجودية الأكبر

الخميس 2018/08/09
دروز المشرق: الأزمة الوجودية الأكبر
مواطنة من الدرجة الثانية (Getty)
increase حجم الخط decrease
وكأن قوس الأزمات قد انتقل دفعة واحدة إلى مجتمعات الدروز في سوريا ولبنان وفلسطين. الأزمات اليومية منخفضة السويّة، كانت علامة مميزة طيلة السنوات الماضية لمجتمعات الدروز المحلية في تلك الدول، لكن موجة عالية من الاضطراب السياسي والأمني عصفت بها خلال الشهرين الماضيين، وباتت تحمل ملامح تهديد وجودي لأقلية لطالما تفاخرت بأنها "ناجية"، على الأقل خلال الألفية الماضية.

في إسرائيل، يعيش الدروز لحظة عصيبة مع تحولهم فجأة إلى مواطنين من الدرجة الثانية إثر تبني الكنيست قانون قومية/يهودية الدولة الإسرائيلية. التنازلات التي قدمها فريق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، للأقلية الدرزية، كانت، بحسب منتقديها، عبارة عن ربط المواطنة للدروز بالولاء للدولة والخدمة في الجيش الإسرائيلي، عبر منحهم "صفة خاصة" في الدولة اليهودية. والبعض وصف تلك الخطوة بتحويل الدروز من مواطنين إلى مرتزقة.

المجتمع الدرزي في فلسطين واجه القانون بثلاثة مواقف؛ قيادة سياسية موالية للحكومة الإسرائيلية، ومشيخة العقل الواقفة في الوسط، وحراك شعبي واسع جداً مناهض للقانون. المظاهرة الدرزية الأكبر في تاريخ إسرائيل، في تل أبيب قبل أيام، تحولت إلى علامة فارقة لرفض قانون القومية، وشارك فيها اليسار الإسرائيلي بقوة. الأمر الذي انتهزه اليمين للتلويح بوجود أجندات خارجية، بل و"خيانة" ضباط دروز استقالوا من مواقع رفيعة في الجيش الإسرائيلي احتجاجاً على القانون. في حين أن الوزير الدرزي/الإسرائيلي، أيوب قارة، الليكودي والمقرب جداً من نتنياهو، والذي صوّت لصالح قانون القومية، تقدم بشكوى للشرطة موضوعها تهديدات "جديّة" وصلته من أقرانه الدروز. شيخ عقل الطائفة في فلسطين، اتخذ موقفاً وسطياً، كعادة المشيخة، فشارك في المظاهرة، وكان مفاوضاً ومشاركاً في الاجتماع الذي قدم فيه نتنياهو "الصفة الخاصة" بالطائفة، وتأسيس لجنة متابعة لتطوير ودعم مناطق الدروز المهمشة.

في لبنان، الانقسام ضمن الطائفة الدرزية تجاه "العهد القوي"، يبدو ثنائياً، مع توافق مشيخة العقل مع موقف الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، في حين تقف في الضد أقلية يمثلها طلال أرسلان. محاولة وزير الخارجية اللبنانية ورئيس التيار العوني، جبران باسيل، انتزاع وزير درزي من كتلة "اللقاء الديموقراطي" النيابية، لصالح أرسلان (الذي لا يتمتع بكتلة نيابية)، تبدو بحسب مناصري "الحزب الاشتراكي"، اعتداءً على "مصالحة الجبل" وارتداداً عن "اتفاق الطائف". الاستقواء الماروني/العوني على القطب الدرزي الأقوى في لبنان، هو جزء من عملية يقودها باسيل لتكسير "الأقوياء" ضمن طوائفهم، ولتمهيد طريقه إلى الرئاسة "القوية" واستعادة صلاحيات "الرئيس الماروني" ما قبل اتفاق الطائف. محاولة قد تعيد لبنان إلى حرب أهلية جديدة، في ظل الانهيار المتواصل، اقتصادياً واجتماعياً، الذي يعيشه البلد.

الانقسام الدرزي-الدرزي في لبنان، يبدو مرتبطاً أيضاً بالملف السوري. إذ يسعى "العهد القوي" إلى تطبيع كامل وسريع للعلاقات، مع النظام السوري الخارج منتصراً من حربه مع السوريين. ولذا يبدو أرسلان، الموالي بشدة لدمشق، خيار "العهد" الأمثل لتقليص حصة الدروز المناهضين لإعادة الانفتاح على النظام السوري. من هنا، يبدو تدخل "العهد" في اختيار الوزراء الدروز، وتجاوز حصصهم التمثيلية في البرلمان، عزفاً على وتر انقسام داخلي درزي/درزي.

في سوريا، المشهد الدرزي أكثر قتامة. فالسويداء تشهد حالة خطيرة من الفوضى والانفلات الأمني، وسط انسحاب "الدولة السورية" من مسؤولياتها الخدمية والأمنية. انسحاب قوات النظام المفاجئ من ريف السويداء الشرقي، تسبب بأكبر مقتلة للدروز منذ اندلاع الثورة السورية. فالنظام، بموافقة حليفه الروسي، نقل مئات العناصر من تنظيم "الدولة الإسلامية" من مخيم اليرموك والحجر الأسود في دمشق، في نيسان/ابريل، إلى شرق السويداء، ما أتاح للتنظيم فرصة لشنّ الهجوم الأعنف ضد "المرتدين" الدروز، ما تسبب بمقتل المئات وخطف العشرات. قبل أيام، عاد النظام ونقل المئات من "دواعش" حوض اليرموك في درعا إلى شرق السويداء.

وكانت السويداء، خلال السنوات القليلة الماضية، قد شهدت نوعاً من الحكم الذاتي، مع انسحاب النظام منها وتسليم المحافظة لعشرات المليشيات المحلية الموالية. علويو النظام توقعوا أن يقف الدروز إلى جانبهم في الحرب ضد السنّة. لكن الدروز، نتيجة انقسامهم الداخلي، أوجدوا نوعاً من الحياد أتاح لهم تمايزاً عن الموقف العلوي. الدروز لم يشاركوا في الثورة، لكنهم لم يشاركوا في قمعها أيضاً. النظام المنتصر، وحليفاه الروسي والإيراني، وجدوا فرصة سانحة لإعادة الدروز إلى بيت الطاعة، عبر السماح لـ"داعش" بارتكاب مجزرة الأربعاء الدامية في الأسبوع الأخير من تموز/يوليو.

وبات واضحاً أن دروز السويداء ليسوا على قلب واحد، بل تتنوع مشاربهم. ففي حين يوالي شيخ عقل الطائفة الأول "الهجري" النظام بالمطلق، يقف شيخا العقل الآخران، "الحناوي" و"جربوع"، في منتصف المسافة. وفي حين تتواجد عشرات المليشيات الدرزية الموالية للنظام، تقف "حركة مشايخ الكرامة" على الحياد. أتاح ذلك انتاج حالة جمعية يمكن وصفها بالحيادية أو الصفرية لمجمل الأقلية الدرزية، لكنه أعاق انتاج قيادة واضحة درزية. العيش في ظل الانقسام الأهلي، قد يكون ممكناً في ظل تصارع الجيران العلويين والسنّة، لكنه يصبح ذا كلفة عالية مع انتصار أحدهما.

الانقسام الأهلي هو سمة المجتمعات الدرزية في سوريا ولبنان وفلسطين، وإن اختلفت حدته وشدته من مكان إلى آخر. وفي حين تميل السلطات الدينية المحلية، عدا في لبنان، إلى موالاة السلطات الحاكمة، تقف كتل شعبية واسعة في موقف النقيض النسبي لا الجذري. ومع ذلك، تبدو الصورة الكلية شديدة التشظي، موغلة في الانقسام الأهلي والاستثمار فيه من قبل سلطات المراكز.

يُقال في التاريخ إن منصب مشيخة العقل أُحدِثَ مع تعاقب السلطات الخارجية على مجتمعات الدروز المحلية. تبدو السويداء بهذا المعنى استثناء، كونها تحظى بمشيخة عقل ثلاثية، استُحدث أولهم وثانيهم كناطقين باسم الطائفة في عهد العثمانيين، بالتماشي مع التناقضات الداخلية الدرزية، في حين أوجد المصريون المشيخة الثالثة لتعزيز الانقسام الأهلي. في السويداء وُجدت مشيخة رابعة لم تعمر طويلاً، من آل أبو فخر، وانتهت مع مطلع القرن الماضي.

النزاع بين مشيخة العقل والسلطات الدرزية التقليدية، يتوافق أصلاً مع معتقدات الدروز حول الانفصال بين الجسدي والروحي. إلا أن تورط مشيخة العقل في يوميات مجتمعات الدروز في سوريا ولبنان وفلسطين، كان قد حولها مع الزمن إلى ما يشبه الزعامة التقليدية "الجسمانية". تحوّل أجبرها على مسايرة الحاكم، أياً كان، والتوسط بينه وبين عموم الطائفة. دور أفقدها جزءاً من روحيتها في مقابل تجسدها كسلطة وسيطة. وهذا ما أتاح ظهور "حركة مشايخ الكرامة" في السويداء، كتعبير عن رفض المجتمع الدرزي المتدين لهيمنة المؤسسة الدينية الرسمية. قُبيل اغتيال مؤسس الحركة الشيخ وحيد البلعوس، كان قد صدر قرار عن مشيخة العقل بالاجماع بـ"حرمه دينياً"، أي ابعاده وعدم جواز الصلاة عليه. ورغم تراجع المشيخة عن قرارها، فقد اغتيل البلعوس بعد فترة قصيرة في العام 2015. الانقسام الدرزي، المتماشي مع تشظي المجتمع السوري، كان قد وصل إلى داخل مجموعة "العُقّال" الدروز المغلقة التي أنتجت "حركة مشايخ الكرامة" كردٍ مباشرٍ، على "مشيخة العقل".

القيادات "الزمنية" للدروز لا تبدو بأحسن حال من زعاماتهم الدينية، بل يبدو الانقسام فيها أكثر حدّة. المشهد اللبناني هو الأكثر تعبيراً عن هذا الانقسام، مع تواجد ثلاثة أقطاب سياسية يقودها جنبلاط وأرسلان ووهاب. في سوريا تبدو الزعامة التقليدية الزمنية مجرد ديكور على مشهد الانحلال للجماعة وانفراط عقدها. في حين تتصاعد موجة شعبية درزية في اسرائيل لمواجهة قانون القومية، ما يمكن أن يشكل لاحقاً تياراً سياسياً جديداً يُمثّل المجتمع المحلي ليحتفظ بمسافة عن شيخ العقل، موفق طريف، ووسطيته، وعن الزعامة السياسية الدرزية الموالية لحكومة الليكود.

الموجة العاتية من الانقسام السياسي التي تجتاح المشرق، أرخت بظلالها على مجتمعات الدروز المحلية، بعدما تمكّن العلويون والموارنة واليهود، كل على حدة، من فرض أجنداتهم السياسية. وقد حان وقت القطاف، بالنسبة لهذه المجموعات المهيمنة على دولها، ونزع صفة المواطنة عن المجموعات الثانوية، وتحويلها إلى رعايا. كما أن انتصار الأنظمة المذهبية/القومية في المنطقة، هو انكسار لمحتوى دول المشرق الحداثي، ونكوص بها إلى عهد المِلّة العثماني. وما كان سائداً وغير محكيّ، طيلة القرن العشرين، صار سياسة علنية تُعلي من شأن المجموعة المذهبية/الدينية/القومية المهيمنة، وتحط من المجموعات الثانوية.

الانكسار المدوي للمشروع الديموقراطي في المشرق، وانهيار الربيع العربي، وهزيمة الثورة السورية، ربما ساهم بتجرؤ اليمين الإسرائيلي على الخروج بمشروع الدولة/القومية/اليهودية، وأيضاً على نكوص الديموقراطية التشاركية اللبنانية إلى حدّ القطيعة مع الطائف. في هذا المناخ المتشنج لـ"المنتصرين"، يبدو مستقبل الأقليات المحكومة، ومنهم الدروز، هو المواطنة من الدرجة الثانية، وربما في أحسن الأحوال الحصول على "صفة مميزة"، لقاء "الولاء" لـ"الدول" والاستمرار في التطوع بجيوشها.

في ظل مشرق كهذا، شديد الانقسام حول هوياته الأوليّة ما قبل الدولتية، تبدو صياغة مواقف شعبية/درزية محلية ثانوية، مناهضة لهيمنة الجماعات المذهبية/القومية المسيطرة، ضرورة وجودية. حراك كهذا يتطلب أولاً، تجاوز تسلط الزعامات الدرزية الدينية والتقليدية، المكرسة تاريخياً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها