الإثنين 2016/11/14

آخر تحديث: 14:12 (بيروت)

أسبوع الألعاب الالكترونية الباريسي أو حياتنا على ضفاف الواقع!

الإثنين 2016/11/14
increase حجم الخط decrease
في أسبوع الألعاب الاكترونية الذي نُظّم في باريس، مؤخراً، واحتل معرض فرساي الضخم الممتد على مئات الأمتار والطوابق، سرعان ما ستكتشف، كجاهل بالألعاب الالكترونية على غراري، أنك مثل أليس في بلاد العجائب: أولاد ومراهقون على مد النظر يلعبون ويتحادثون في أمور تتكشف سريعاً أنك لا تفقه منها شيئاً، فيما الآباء والأمهات يترامون على الأطراف بانتظار الأولاد، وربما لنهار بأكمله، ينحون برؤوسهم على هواتفهم الجوالة، التي تبدو من زمن ماض أمام سحر الألعاب بألوانها وشاشاتها وأجهزتها العجيبة. إنك إزاء صراع الأجيال بأحلى تعبيراته!

إذا ما تخطينا هذا الشعور الأول بالاستغراب وشبه البلاهة، ورحنا نتعرف على ما يحيط بنا وعبر طرح الكثير من الأسئلة، حين يتوافر البائع أو العارض الذي تحرر من الأولاد والشباب للحظة، فإننا سننتبه لحجم التحولات التكنولوجية التي تنبئ بها هذه الألعاب، والى مدى تأثيرها في الانتاج السينمائي والفني والتجاري. كالأفلام التي تعتمد شخصيات وأجواء الألعاب الالكترونية، والألوان الباهرة والتصميمات الخلابة التي بدأت السينما تستوحي منها، منذ فيلم "آفاتار" قبل سنوات، لكن أيضاً الرسوم المتحركة أو المصورة والتي يجري تحريكها بتقنيات رقمية عالية تأتي بكل ما يرغبه الخيال وعجزت السينما حتى تاريخه عن تحقيقه.

كل ذلك ستشهده وتتلمسه لدى زيارة هذا المعرض الضخم، وهو غير متخصص في الألعاب الإلكترونية فقط، وإن كانت هذه الأخيرة هي بمثابة النموذج الأمثل له. فالنظارات التي تتيح لك ان تعيش تجربة ثلاثية الأبعاد اصبحت تحل محل الزيارة الفعلية للمعارض، بل انها تؤثر حتى في السياحة، إذ تتيح لك زيارة العالم افتراضياً وأنت على كنبتك، وكأنك هناك فعلاً. حين جربت النظارات للتجول افتراضياً في نيويورك، كم كان خوفي حين انحنيت برأسي قليلاً للأمام وأنا أقف افتراضياً على أعلى ناطحة سحاب أنظر الى المدينة في الأسفل، فشعرت أنني سأهوى في الفراغ فتراجعت بسرعة، ولم كن رد فعلي الأول أن أنزع النظارات، إذ صدّقتُ فعلاً انني سأهوي!

بين الجد واللعب: التربية الالكترونية
حين نتحدث عن صراع الأجيال الحاد في عصرنا هذا، ليس في الأمر مبالغة. فكل جيل آت هو أكثر تكيفاً وسلاسة في التعاطي مع التكنولوجيا الرقمية من سابقه. ولسرعة عصر الابداعات يصبح اللحاق بها أصعب وأصعب للأكبر سناً. هذا مع العلم أن جيل الثلاثينات الى الخمسينات من العمر، وفي العالم بأكمله، لا يتقاعس عن اللحاق بالتكنولوجيا الرقمية، وخصوصاً الآباء والأمهات لصغار السن والشباب. فكيف يستطع الأهل أن يحافظوا على هيبتهم واحترام رأيهم وكلمتهم إزاء أولاد يبدأون منذ صغرهم بتعليم أهلهم على وظائف وتسهيلات في وسائل الاتصالات والانترنت، بعضها يفيدهم حتى في عملهم؟ أو ينظرون بسخرية واستخفاف الى والديهم إذا ما عبروا عن أي حماقة أو جهل في هذا المجال. وربما كان العديد من الأهل المنتظرين أولادهم في قاعات المعرض، يلعبون هم أيضاً الكترونياً على هواتفهم، فيما البعض كان بالتأكيد يجرّب اللعب الالكتروني الجماعي أو يتعرف على الابتكارات الجديدة.

وبشكل أعم يطرح تطور التكنولوجيا الرقمية مشكلات في السياسات التربوية والتعلمية الموجهة للأطفال والطلاب عموماً والتي تعدهم لاكتساب معارف ومهارات واستخدام أدوات عمل جديدة. من هنا ادخال برامج التربية الرقمية في بعض المدارس التمهيدية الأميركية والأوروبية، وبعضها يعتمد الألعاب الالكترونية بالتوازي مع الألعاب التربوية. لكن الأطفال يتعلمون أيضاً لغة البرمجة المبسطة والترميز (كود) المعلوماتي، كما اساليب التواصل والبحث على الانترنت. وتعمد الهيئات التعليمية في بعض البلدان لتوجيه برامج خاصة للوالدين. وبالرغم من تجارب أولية في بعض البلدان، ما زال العالم العربي متأخراً جداً في هذا المجال.

وهكذا لا نستغرب مشاركة المكتبة الوطنية الفرنسية في أسبوع الألعاب الالكترونية، وهي التي تملك أكثر من 15000 لعبة الكترونية مع معداتها ومن أقدم النماذج الى أحدثها، وصالات وشاشات للعب فيما تقوم بأنشطة ثقافية حولها تتوجه للكبار والصغار والمربين.

وهل "بوكيمون غو" بهذه التفاهة؟
لنتخيل لحظة أننا وقعنا وجهاً لوجه في الشارع مع شخص يقوم بحركات غريبة من نوع تحريك سبابة اصبعه في الفراغ امام ناظريه، تارة نحو الأعلى والأسفل وطوراً الى اليمين وطورا الى اليسار وبحركات بطيئة أو خاطفة كمن يقلّب شاشة هاتفه الجوال، سنعتبره بلا شك مجنوناً!

أثناء تفكيري في الأمر على سبيل التخيل العلمي وبتأثير من مشاهدة التطورات التكنولوجية المتسارعة، اكتشفت أن "غوغل" تطور منتجاً جديداً سمّته "سولي". و"سولي"، بحسب تعريف الشركة نفسها، عبارة عن تكنولوجيا استشعارية تستخدم رادارات صغيرة للتعرف على حركات اليدين غير اللمسية: يكفيك مثلاً ان تحرك يدك كمن يريد اجراء مكالمة هاتفية أو إدارة محرك السيارة بواسطة مفتاح حتى يطلب الرقم أو تدور السيارة من دون أن تلمس هاتفاً أو مفتاح سيارة ومن دون أن تستخدم صوتك للتعرف الصوتي.

وهكذا فإن صاحبنا أعلاه ليس مجنوناً، بل يشاهد في الفراغ أمام ناظريه صوراً أو فيلماً أو يقرأ نصاً أو يلعب الكترونياً، وهذا ما تبشرنا به "سولي"!

بالرغم من الانتقادات بل السخرية التي تعرضت لها اللعبة الجماعية الكونية "بوكيمون غو"، فإنها كشفت لنا بُعداً جديداً من أبعاد التكنولوجيا الرقمية في لحظة تحولها من أيدي المحترفين الى عامة البشر. فإذا كان الجديد في مبدأ اللعبة هو تلبيس الواقع بغلاف رقمي يحتوي على كائنات بوكيمون صغيرة يسعى اللاعب لاصطيادها لدى ظهورها على شاشته، فإن مبدأ مضاعفة الواقع بحيثيات أو صور رقمية ليس جديداً ويجري استخدامه لغايات عديدة، من الاعلام الرقمي والتلفزيوني الى الهندسة والطب والمعارض الفنية والتعليم والأمن وغيرها الكثير.

ذلك أن لعبة "بوكيمون غو" تشي بتطور تكنولوجي مذهل، وربما لهذا فإن ممارستها على هذا النطاق قد تشكل تجربة وتعويداً وترويجاً للتكنولوجيا الجديدة. فلا شيء يمنع من الناحية العملية اليوم من تجهيز الواقع بهذه الطبقة الاضافية التي قد تحتوي بدل "البوكيمونات"، على معلومات عن المحل التجاري الذي نمرّ أمامه، والبضاعة التي يسوقها، أو تدلنا على المكان الذي نقصده أو عما يمكن أن نشاهده في معرض أو متحف أو مسرح، أو اي صفحات توثيقية نريدها في أي لحظة وأي مكان، وهذا ما يحدث اليوم داخل المعارض وباستخدام نظارات معدة للمشاهدة ثلاثية الأبعاد.

العالم بين أيدينا
لسرعة اعتيادنا على التكنولوجيا الجديدة لن نفاجأ بحركات الشخص الذي يلامس الفراغ أمامه. ألم نكن نعتبر، ومنذ سنوات قليلة فقط، من يحادث نفسه في الشارع مجنوناً عندما بدأنا جميعاً نفعل ذلك عبر وضع سماعات هواتفنا في آذاننا، فنلوح بأيدينا ونرفع أصواتنا كمن "يحكي بحاله" ومن دون أن نلفت النظر؟

ما تقترحه "سولي" بالفعل هو تخطي أي معدات (هاتف، كومبيوتر، ساعات أو نظارات) من خلال جهاز مصغّر، عبارة عن لوحة الكترونية مزودة بتقنية استشعار تسمح بوضع حواسنا في اتصال مباشر وبلا أي وسيط مع العالم الافتراضي.

وعندها سنتجول جميعاً بلا معدات وبحواسنا فقط، فنلامس السديم بأصابعنا بشكل تلقائي لنحصل على معلومات معينة ونقرأ ونشاهد ونلعب من دون إثارة حذرنا ولا انتباه الآخرين!

وبما أننا سنستخدم أيدينا فقط، فسنكون لأول مرة على علاقة مختلفة بالآلة، وفي شكل توسط حواسنا لاستخدامها. تدخل التكنولوجيا الرقمية حياتنا، فتلتهمها كما يتوقع الباحث في وسائط الاتصال مارك دوز في كتابه "الحياة بالواسطة" (ميديا لايف)، فإن هذه التكنولوجيا ستصبح أكثر فأكثر خفية، أي ان العلاقة بين الجسد والآلة ستختلف لتصبح تلقائية لا بل تدريجياً لا إرادية.

مسيّرون أم مخيّرون؟
يتخوف الكثيرون من حتمية سيطرة التكنولوجيا على حياة البشر، بدءاً باحتمال تلقيم دماغنا بلوحات الكترونية تعزز اشتغال ذهننا وذاكرتنا بعشرات الأضعاف، وصولاً الى أنسنة الآلة (الروبوت). ولم يعد ذلك من قبيل الخيال العلمي، بل هو قيد التطوير حالياً.

مع ذلك تمارس هذه التكنولوجيا سحرها الشديد علينا. فرغبتنا ملحة بتجربة أي من ابتكاراتها الجديدة. كما حصل منذ سنوات قليلة مع وسائل التواصل الاجتماعي التي رفضها الكثيرون في البدء ليعودوا لاستخدامها بعد حين.

ذلك أن خوفنا مزدوج من أن يفوتنا أمر هذا التطور التكنولوجي المدهش والمتلاحق حتى قطع الأنفاس، وشعورنا بأننا سنعود لاحقاً منصاعين لاستخدام هذه الوسيلة أو تلك بعدما كنا قد رفضناها. ولهذا اعتدنا أن نجرّب في الحال. وهذا ما حصل مع "بوكيمون غو"، التي انخفض عدد مستخدميها بشكل ساحق بعد الأسبوع الأول لظهورها.

اللهو كحاجة انسانية
أن المعرفة من خلال اللهو هي أكثر متناولاً ومتعة بالتأكيد، ومن هنا بعض الإكتشافات التي نتعرف عليها في المعرض وتخص التربية الرقمية واكتساب المعارف.

إذ تقوم قيامة العديد من المعالجين والمحليين النفسيين على الألعاب الالكترونية التي يقضي المراهقون والشباب ساعات أمامها، مما يؤدي الى عزلهم اجتماعياً، تعتبر بعض الدراسات السلوكية ان هناك فوائد عديدة للعب الاكتروني منها تطوير التفكير الاستراتيجي لدى ممارسيها ونسج علاقات اجتماعية مع لاعبين آخرين مما يؤدي تحديداً للخروج من العزلة والتي ربما عجز الأطباء النفسيون عن تحقيقها لدى مرضاهم خلال سنوات من العلاج. وقد بدأ بعض الباحثين النفسيين، دعوة زملائهم للمشاركة في اللعب على الانترنت، لفهم أعمق للمشكلات النفسية لمرضاهم اللاعبين، بغية التمكن من مساعدتهم والتعرف في الوقت نفسه على فوائد اللعب الالكتروني بدلاً من التركيز المستمر على مضاره.

تميز القرن العشرين بتقدير الجدية والانتاجية في حياة الأفراد، لا بل جرى وضعها في مصاف أول بالنسبة لحاجات البشر الأخرى ومنها التسلية و"إضاعة الوقت" ببساطة. وربما نبع ذلك من تقديس العمل وتحقيق الذات من خلال المعرفة، لكن أيضاً من خلال تكريس الوقت لجمع الثروات والاقتناء ومظاهر الصعود الاجتماعي. حتى ظهرت أخيراً، وللرد على هذا الانحراف، معايير لقياس نوعية الحياة والسعادة عند حساب ثروات البلدان.

ربما كان ما يسحرنا في التكنولوجيا الرقمية هو التغيير الجذري الذي تدخله في حياتنا. في علاقاتنا الإنسانية مثلاً حيث أصبحنا قادرين على نسج علاقات عمل وصداقة وسفر وحميمية على مستوى كوني، وذلك فقط خلال زمن قصير لا يعتدى الخمسة عشر عاماً. وهذا متاح للبشر جميعاً بلا تمييز، وهو تطور جدير بإثارة حماستنا المفرطة للابتكارات الجديدة.

ما تتيحه التكنولوجيا الرقمية هو نوع من تلطيف الحياة وإعادة الاعتبار للتسلية كما السهولة في التواصل الاجتماعي خارج الطبقات والمراتب والحدود. ولا شك أيضاً انها تغير طرقنا في اكتساب المعرفة وانتاجها وتداولها. من هنا التجارب الجديدة التي تعتمد إدخال البرمجة واللعب الالكتروني الى المدارس ومنذ نعومة الأظافر، باعتبارها وسائل تسهل المعرفة وتطوير الشخصية في آن.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها