الإفراج عن الفاخوري في لبنان دلالات وتداعيات
مارس 30, 2020 1604

الإفراج عن الفاخوري في لبنان دلالات وتداعيات

حجم الخط

تمهيد   
شهد منتصف شهر آذار/مارس تطوراً نوعياً في المشهد السياسي اللبناني، إذ أمرت المحكمة العسكرية هناك بالإفراج عن القيادي السابق في مليشيا جيش لبنان الجنوبي الموالي لإسرائيل عامر الفاخوري، والذي توجه بعد الإفراج عنه مباشرة إلى السفارة الأمريكية، قبل أن تُقلّه مروحية أمريكية من داخل السفارة، لينقل بعدها إلى الولايات المتحدة.  
وشكّلت هذه العملية إحراجاً مباشراً وغير مسبوق لحزب الله، والذي يُسيطر مع حلفائه بالكامل على الحكومة، كما يُسيطر على مفاصل الدولة أصلاً، كما زاد هذا الإحراج بتوجيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شكراً خاصاً للحكومة اللبنانية على تعاونها في الإفراج عن الفاخوري، ليُنهي بذلك أي ادعاءات عن تنفيذ هذه العملية بدون علم الحكومة، أي علم وموافقة حزب الله.  
وكان الفاخوري قد هرب من لبنان عام 1998 قبل انسحاب إسرائيل بعامين إلى إسرائيل، وبقي يعمل مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وحصل على هوية وجواز سفر إسرائيليين، ما سمح له بالسفر إلى الولايات المتحدة ونيل جنسيتها بعد خلاف مع رؤسائه الإسرائيليين. وصدر حكم غيابي في لبنان بحقه في نفس العام الذي غادر به لبنان 1998 بالسجن لمدة 15 عاماً مع الأشغال الشاقة لاتهامه بالعمالة لإسرائيل. 
وعاد الفاخوري إلى لبنان عبر مطار بيروت في أيلول/سبتمبر 2019، لكن أمن المطار لم يتمكن من توقيفه لأن جميع مذكرات التوقيف بحقه كانت "مسحوبة" من الأنظمة الإلكترونية. لكن الأمن العام أوقف الفاخوري بعد ذلك بأيام، ليواجه عدّة تهم رفعها معتقلون سابقون في سجن الخيام، إلا أن قاضي التحقيق لم يستجوب الفاخوري بسبب وضعه الصحي ولم يصدر مذكرة توقيف بحقه. 
ويتناول هذا التقرير مواقف الفاعلين الرئيسين في المشهد اللبناني تجاه هذه القضية، والدلالات التي تحملها، والتداعيات المحتملة لها.    

أولاً: مجريات الإفراج عن الفاخوري   
أمرت المحكمة العسكرية في 16/03/2020 بإطلاق سراح عامر الفاخوري، بعدما قضت بقبول دفوع شكلية تقدم بها محاموه باعتبار أن الجرائم المسندة إليه بتعذيب سجناء في معتقل الخيام "سقطت بمرور الزمن العشري"، أي مرور أكثر من عشر سنوات على وقوع الجرم، ومن ثم كف التعقبات عنه في هذه القضية. 
بعد إطلاق سراح الفاخوري ووصوله إلى السفارة الأمريكية في بيروت، أصدر قاضي الأمور المستعجلة في النبطية في جنوب لبنان قراراً بمنعه من السفر لمدة شهرين. فيما سارع مفوض الحكومة لدى محكمة التمييز إلى طلب نقض الحكم، وإصدار مذكرة توقيف بحق الفاخوري وإعادة محاكمته. 
لكن الفاخوري نقل من لبنان في مروحية عسكرية حطت يوم 19/03/2020 في السفارة الأميركية شرق بيروت رغم قرار القضاء بمنعه من السفر. وأعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في نفس اليوم أن الفاخوري "في طريقه" إلى الولايات المتحدة، وأكد: "عملنا بجدّ لتحريره"، مضيفاً "أشكر الحكومة اللبنانية التي عملت معنا"( 1 )، في إشارة منه إلى أن إطلاق سراح الفاخوري وخروجه بهذه الطريقة من لبنان تم بعلم وتعاون من الحكومة، التي لم تؤكد هذا الأمر أو تنفه. 
لكن اللقاءات والاتصالات التي أجرتها السفيرة الأمريكية السابقة والجديدة في الأسابيع القليلة الماضية كانت على أعلى مستوى في الحكومة اللبنانية. فالسفيرة الجديدة دورثي شيا بعد وصولها إلى بيروت التقت مع رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب في 13/03/2020، أي قبل اجتماع المحكمة العسكرية وقرارها بالإفراج عن الفاخوري بثلاثة أيام فقط( 2 ). 
وقبيل مغادرتها لبنان، لانتهاء مهامها، التقت السفيرة الأميركية السابقة اليزابيت ريتشارد، برئيس الحكومة حسان دياب، في 18/02/2020 في السراي الحكومي، دون أن تدلي بتصريحات حول مضمون المحادثات التي أجرتها مع رئيس الحكومة اللبناني (3) . 
وكان لافتاً أن السفيرة استبقت لقاءها مع دياب وأي وزير في الحكومة الجديدة بزيارة إلى رئيس التيار الوطني الحر، النائب جبران باسيل في 14/02/2020، حيث أجرت معه لقاء استمر ثلاث ساعات في المقر المركزي للتيار، بعدما كانت تقارير تحدثت عن إمكانية فرض واشنطن عقوبات على باسيل، وهي تقارير ألمح التيار في موقعه الرسمي إلى عدم صحتها مستدلاً بالزيارة( 4 ). 
وختمت السفيرة الأمريكية السابقة مهامها في لبنان بلغة تهديد مبطنة ضد الحكومة اللبنانية وذلك في بيان مكتوب بعد زيارتها الوداعية إلى بعبدا في 26/02/2020، حيث أبدت تمسكها بدعم الحراك الشعبي الرافض للحكومة والداعي لزوال النخبة السياسية المهيمنة على البلاد. وشددت السفيرة في بيانها على أن "أن الجميع يدرك أن النظام، في العقود القليلة الماضية، لم يكن يعمل وبالتالي هذه فرصة تاريخية للشعب اللبناني لقلب الصفحة"، وهذه العبارة الأخيرة اعتبرت من قبل الصحافة اللبنانية دعوة أمريكية لاستئناف الفعاليات الرامية لتغيير النظام القائم( 5 ).   

ثانياً: مواقف الفاعلين المحليين   
1- الحكومة 
تعد الحكومة اللبنانية برئاسة حسان دياب ووزير خارجيتها ناصيف حتي الطرف الأول المسؤول عن توضيح موقفه من حادثة الإفراج عن الفاخوري ثم تهريبه من السفارة الأمريكية بطائرة عسكرية، ورغم ذلك، لم تُعلن الحكومة أي موقف أو توضح رأيها بشكل صريح بما جرى منذ الإفراج في 16/03/2020 وحتى صدور هذا التقرير. 
وفي ردود أفعال لا توضح المواقف الرسمية، برزت ردتا فعل للحكومة اللبنانية يوم 20/03/2020. حيث ذكرت الوكالة الوطنية للإعلام (الوكالة الرسمية للأنباء) في خبر مقتضب أن وزير الخارجية حتي استدعى سفيرة الولايات المتحدة دوروثي شيا، و"استمع منها إلى شرح حول حيثيات وظروف إخراج عامر فاخوري من السفارة الأميركية في عوكر إلى خارج لبنان"( 6 ) 
ويلاحظ في هذا الخبر أنه لم يصف الاستدعاء بأنه جاء "احتجاجاً" على ما جرى. وهنا أيضاً اكتفى نص الوكالة الرسمية بوصف ما جرى بأنه "إخراج الفاخوري من السفارة" دون توضيح تناقض هذا العمل مع القانون اللبناني والقانون الدولي، بوصفه تهريباً للفاخوري بطريقة غير شرعية وفي خرق للقوانين اللبنانية ومنع السفر الذي فرض عليه من قبل القضاء. 
أما ردة الفعل الثانية، فقد جاءت على شكل تغريدة لرئيس الوزراء حسان دياب، كتب فيها قائلاً: "لا يمكن أن تُنسى جريمة العمالة للعدو الاسرائيلي. حقوق الشهداء والأسرى المحررين لا تسقط في عدالة السماء بمرور الزمن"، وهو بذلك لا يتخذ موقفاً مباشراً مما جرى ويكتفي بإحالة ضحايا الفاخوري على عدالة السماء بعدما أفلت من العدالة في لبنان( 7 ) 
2- التيار الوطني الحر 
يُعد التيار الوطني الحر، إلى جانب حزب الله، أحد أبرز الداعمين لحكومة حسان دياب. وقد صمت في البداية عن قضية الفاخوري، لكن تقريراً لجريدة الشرق، التابعة لعائلة الحريري، اضطره للخروج عن صمته، بعدما اتهم التقرير باسيل بالتعرف على الفاخوري في السفارة اللبنانية بواشنطن، وتعهده للأخير باستحصال عفو خاص له لدى عودته إلى لبنان ومساعدته، وهو ما فشل فيه زعيم التيار الوطني الحر( 8 ). وبحسب التقرير فإن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أوفد وكيل وزارة الخارجية والسفير الأمريكي السابق لدى بيروت ديفيد هيل إلى لبنان، حيث التقى بباسيل، ليقوم الأخير بطلب المساعدة من حزب الله، خوفاً من العقوبات التي كانت ستطاله وتياره في حال لم يتم الإفراج عن الفاخوري.  
ويتوافق ما نشرته الصحيفة مع ما نُشر في الإعلام اللبناني في أيلول/ سبتمبر الماضي، غداة وصول العميل الإسرائيلي السابق إلى لبنان، من أن ضابط الأمن في المطار لم يستطع توقيفه عندما وجد أن جميع أوامر الاعتقال بحقه "مسحوبة"( 9 ). 
وقد رد مكتب باسيل بعد ساعات من نشر تقرير الشرق بنفي ما جاء فيه، وقال: "احتراماً للقضاء، لم يعلق النائب باسيل على الانتقادات والافتراءات التي طاولته زوراً بموضوع العميل فاخوري، لا عند توقيفه ولا عند إخلاء سبيله، إلا أن ما ورد في صحيفة الشرق يشكل افتراءً فاضحاً وتزويراً للحقيقة"، مضيفاً أنه "لا يعرف الفاخوري أصلاً ولا علاقة له به إطلاقاً، وكل كلام عن تعهد من باسيل لمساعدته هو تحامل وكذب"( 10 ). 
وكانت نفس التسريبات قد تناقلتها صحف لبنانية تؤكد الدور المحوري لجبران باسيل في الإفراج عن الفاخوري خشية وضعه على لائحة العقوبات الأمريكية، إذ تعتقد واشنطن بأن لباسيل دور في تشجيع عودة الفاخوري ليتنصل من قضيته بعد اعتقاله.  
وتحدثت تسريبات لصحيفة المدن اللبنانية عن محاولات متكررة لباسيل بالتوسط لدى حزب الله لمساعدته شخصياً في هذه القضية، الأمر الذي نتج عنه "توليفة قانونية لإطلاق سراح فاخوري، من خلال اجتراح صيغة تم تطبيقها على مقاتلي الحرب الأهلية، بذريعة سقوط الاتهامات الموجهة إليه بفعل مرور الزمن، بالإضافة إلى تقديم وكلائه دفوعاً شكلية، جرى قبولها لإطلاق سراحه"( 11 ). 
ومع استمرار تدفق المعلومات والتسريبات حول دور باسيل في مسألة الفاخوري، أصدر التيار الوطني الحر بياناً جديداً جدد فيه نفيه ما يوجه لباسيل من اتهامات، وتطرق في هذا البيان بخلاف البيان السابق إلى "الفريق المدافع عن المقاومة" منتقداً "المزايدات السياسية". وأكد البيان أن "التيار يفهم غضب بعض الناس خاصةً المألومين منهم، وكذلك يتفهم مواقف البعض الرافضة لقرار المحكمة العسكرية بكف التعقبات، لكنه لايفهم ولا يتفهم المزايدين والملكيين أكثر من الملك فهنا علة العلل"( 12 ) 
وفي هذا الرد يتضح ويتأكد موقف التيار الوطني الحر وزعيمه جبران باسيل من أنهم لا يعارضون ولا يرفضون قرار الإفراج عن الفاخوري، و"يتفهمون" موقف الرافضين. كما تفيد عبارة "لا يتفهم المزايدين والملكيين أكثر من الملك" بموافقته على ما جرى، وربما يشير إلى موافقة حزب الله الضمنية باعتباره "ملك" المزاودة في موضوع العلاقة مع إسرائيل، وعليه فإنه لا ينبغي لأحد أن يكون ملكياً أكثر من حزب الله. 
3- حزب الله  
يعدّ حزب الله المعني الأول بإطلاق سراح الفاخوري لاعتبارات عديدة، فهو من جهة من يحمل شعار "مقاومة إسرائيل"، ويحصل تحت هذا الشعار على امتياز حمل السلاح وإدارة دولة موازية للدولة، كما أن الحكومة الحالية يمكن وصفها أكثر من أي حكومة سبقت في تاريخ لبنان بأنها حكومة "حزب الله" وحلفائه، باعتبارها حكومة لون واحد، وتخلوا من التوافقات السياسية المتعارف عليها منذ اتفاق الطائف. 
مر موقف حزب الله من قضية الإفراج عن العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري بمرحلتين:  
الأولى التزم فيها الصمت، ولم تصدر عنه ردة فعل إلا بعد مرور يوم كامل على قرار المحكمة العسكرية بشأن الفاخوري. وهو أمر غير اعتيادي في قضية كهذه بالنسبة للحزب.  
الثانية أصدر فيها عدداً من البيانات، مع تتويجها بخطاب متلفز لزعيمه حسن نصر الله تناول فيها هذه القضية في ساعة كاملة.  
ورغم تعدد البيانات، ابتداءاً ببيان رسمي صادر عن مكتب العلاقات الإعلامية في الحزب، ومروراً ببيان لمحامي الحزب، وتصريحات متفرقة لبعض نوابه في البرلمان، وهيئات وأحزاب مقربة له وانتهاءاً بخطاب نصر الله، إلا أن موقفه لم يخرج عن أربعة عناصر رئيسية تمسك بها طوال الوقت، وكررها في كل مناسبة:  
أ. ضغوط لا صفقة، دون علم مسبق للحزب 
في بيانه الأول( 13 )، تحدث الحزب عن "ضغوط وتهديدات أميركية سراً وعلانية لإجبار لبنان على إطلاق سراحه". وأنها "أثمرت" في نهاية المطاف، وأن قرار المحكمة العسكرية "خطوة غير متوقعة"، وبذلك يحاول الحزب أن يقول بأن ما جرى هو نتاج ضغط لا صفقة، وأنه إذا لم يكن على علم بالخطوة أصلاً فهو ليس جزءاً من الصفقة المفترضة من باب أولى. 
وقد افتتح حسن نصر الله خطابه يوم 20/3/2020 بقوله: "لا علم لنا بوجود صفقة، بل ما نعلمه هو عدم وجود صفقة"، مضيفاً: "لم نغض الطرف عنها ولم نسكت عليها ولم نغط عليها.. لأنه لا يوجد صفقة". وكانت هذه الجملة الافتتاحية هي الرسالة الأهم التي حاول إيصالها في مجمل الخطاب( 14 ). 
واستفاض نصر الله في الحديث عن الضغوط الأمريكية "القوية على أغلب مسؤولي الدولة" و"التهديدات المباشرة لكل من يعيق إطلاق سراحه بوضعه على لائحة العقوبات"، وهو يؤكد بطريقة غير مباشرة ما تسرب عن تهديد واشنطن لباسيل تحديداً بوضعه على قائمة العقوبات الأمريكية، وتحرك الأخير لدى الحزب لتدارك الموقف. 
كما قدّم نصر الله شهادة بحق الحكومة، حيث قال بأن "الحكومة مجتمعة لا علم لها بما حدث". 
ب. قرار خاطئ ومرفوض 
وصف الحزب هذا القرار بـ"الخاطئ"، وأنه "يوم حزين للبنان وللعدالة، وهو قرار يدعو للأسف وللغضب والاستنكار"( 15 ) 
ويلاحظ أن العبارات التي استخدمها الحزب في بيانه وفي خطاب أمينه العام لا تنسجم مع الأدبيات المتوقعة منه تجاه مثل هكذا قرار، خاصة وأنها تتناول قراراً صدر عن مؤسسات الدولة التي يُحكم السيطرة على حكومتها ومفاصلها الأخرى.  
ج. تحميل المحكمة مسؤولية القرار، والتزام الطرق القانونية 
حمّل الحزب مسؤولية القرار للمحكمة ورئيسها وأعضائها. وقال بيان الحزب: "كان من الأشرف والأجدى لرئيس المحكمة العسكرية وأعضائها أن يتقدموا باستقالاتهم بدل الإذعان والخضوع للضغوط". 
ويذكر أن رئيس المحكمة العسكرية العميد الركن حسين عبد الله قدّم استقالته بتاريخ 20/03/2020(16 https://almanar.com.lb/6398988 ). 
وقال حسن نصر الله في خطابه إن الخطوات التي يقترحها الحزب للتعامل مع القضية هي "استمرار الملاحقة القضائية للفاخوري كهارب من العدالة في لبنان، ويمكن دراسة ملاحقته في القضاء الدولي". ورفض الحكم على هيئة المحكمة ورئيسها بسبب قرارهم، مقترحاً إمكانية عمل لجنة تحقيق برلمانية "لفهم ما حصل"( 17 ). 
د. دعوة القضاء لاستدراك ما حصل 
دعا الحزب القضاء اللبناني إلى "استدراك ما فات من أجل سمعته ونزاهته التي باتت على محك الكرامة والشرف"( 18 )، وهي إشارة إلى أن العملية والإجراءات القضائية هي أقصى ما يطالب به الحزب لاستدراك ما حدث، وهو بالفعل ما تمثل بقرارات الطعن في محكمة التمييز ومنع الفاخوري من السفر ولكن دون جدوى.   

ثالثاً: دلالات الإفراج    
لم يبالغ الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله عندما وصف الضغوط الأمريكية التي مورست على لبنان بشأن إطلاق سراح العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري بأنها قوية وشملت أعلى المسؤولين في الحكومة. ولعل مشكلة حزب الله حسبما تبين من قراءة موقفه هي في عدم تقديم واشنطن مقابلاً معقولاً لإطلاق سراحه، والخوف من تبعات الكيفية التي يريد الأمريكيون تحقيق الهدف من خلالها. 
ويبدو أن الضغوط الأمريكية بلغت أوجها عندما اقترحت السيناتورة الأميركية جين شاهين من ولاية نورث كارولاينا، والسيناتور تيد كروز، من ولاية تكساس، فرض عقوبات بتأييد من الحزبين الجمهوري والديموقراطي على كبار المسؤولين اللبنانيين الضالعين في اعتقاله، خصوصاً أن لبنان استفاد من مساعدات أميركية، قُدرت بأكثر من 2.29 مليار دولار منذ عام 2005( 19 ) . 
ومع تزامن هذه الضغوط مع حاجة الحكومة الجديدة لدعم دولي تواصل واشنطن إعاقته بشكل كبير حتى الآن، ومع انهيار الاقتصاد المحلي تحت وطأة أزمة السيولة وتفاقم الدين العام، بالإضافة إلى أزمة انتشار وتفشي فيروس كورونا، التي ضاعفت من متاعب وتحديات حكومة حسان دياب ومن ورائه ثنائي حزب الله – التيار الوطني الحر، أصبحت الحكومة أو صانع قراراتها على الأقل أمام خيار وحيد لا بديل عنه، وهو التعاون مع الطلب الأمريكي أو مواجهة مزيد من انحدار الوضع نحو الأسوأ على جميع المستويات. 
ويمكن توقع الثمن الذي حصلت عليه الحكومة، أو بالأحرى التحالف الذي يقف خلفها، ضمن أحد ثلاث احتمالات:  
1. إطلاق سراح معتقلين في الولايات المتحدة 
قد يكون المقابل في هذه الصفقة هو إطلاق سراح لبنانيين محسوبين على حزب الله أو حلفائه في الولايات المتحدة، وهو الاحتمال الأضعف.  
2. رفع الفيتو الأمريكي على المساعدات الدولية 
ربما يكون المقابل هو إرخاء القبضة الأمريكية أمام الدول الراغبة بتقديم الدعم والمساعدة للبنان، وهذا قد يكون احتمالاً كبيراً، لا سيما مع تصريح السيناتورة جين شاهين الذي علقت فيه على إطلاق سراح فاخوري بالقول: "لقد أيدت منذ فترة طويلة العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة ولبنان، وآمل أن تكون هذه خطوة أولى لإصلاح العلاقات"( 2 ) . وأيضاً بالنظر إلى تصريح الرئيس الأميركي الذي شكر الحكومة اللبنانية "التي عملت معنا"، ما يفيد بإقراره بتعاون لبناني في القضية يستتبع إجراء أمريكياً في المقابل. 
3. عدم تنفيذ التهديدات الأمريكية 
وفي هذا الاحتمال فإنّ الثمن المرجو من هذه الصفقة هو عدم قيام واشنطن بتنفيذ تهديداتها فحسب، ويكون الثمن الذي حصل عليه حزب الله هو تنازلات من طرف التيار الوطني الحر، على اعتبار أنه المعني أكثر بعدم وضعه على اللوائح الدولية، بينما تتواجد معظم قيادات الحزب ومؤسساته على تلك اللوائح أصلاً.    

رابعاً: التداعيات المحتملة   
حاول حزب الله من خلال بياناته وخطاب زعيمه حسن نصر الله صياغة رواية متماسكة لما حدث، بطريقة أراد لها أن تضمن له أن يكون بعيداً عن شبهة المشاركة في صفقة، تتناقض مع أدبياته وتاريخه وشعاراته في الصميم، وأن ترفع عنه شبهة السيطرة على الحكومة باعتبار أنه غير موافق على ما جرى.  
ورغم ما يبدو من تماسك هذه الرواية، إلا أنها غير مقنعة لجمهور الحزب والجمهور اللبناني بعامة، والذي يعرف طبيعة القضاء اللبناني تماماً، ويستطيع أن يفهم -دون حاجة لآليات معقدة لتحليل الخطاب- أن الحزب وشركائه يستخدمون لغة شبه محايدة في الحديث عن قضية مغرقة في المحلية، في وقت تتشكل فيه الحكومة من تحالف حزب الله وحده، دون أي شركاء آخرين من لون آخر يمكن تحميلهم المسؤولية بأي شكل.  
ويواجه حزب الله تحديداً أبرز تداعيات هذه القضية، وهو ما يُفسر تخصيص الأمين العام لخطاب مطول مخصص للحديث عنها، وتركيز رسائله لجمهوره ومؤيديه وليس لأعدائه وخصومه، كما ردد مراراً في الخطاب المذكور، كما يفسر رسمه لخطين أحمرين أمام المؤيدين قبل الخصوم، يتمثلان بالتشكيك والاتهام من جهة، والشتيمة من جهة أخرى. ويظهر الخطان الأحمران اللذان قام بذكرهما المستوى الذي هبطت إليه ثقة جمهور الحزب به.  
ومن المفارقات أنه أيّاً كان المقابل الأمريكي المفترض في الصفقة المفترضة، فإنه ستكون له تداعيات سلبية على صورة حزب الله لدى جمهوره، وأيضاً لدى خصومه، المحليين والدوليين. 
ففي حال كان المقابل هو مصلحة حزبية ضيقة، وهذا يمكن أن يظهر بسهولة مع الوقت، فإن ذلك سيوجه ضربة قاصمة لما تبقى من ثقة لدى جمهور الحزب الأوسع العابر للطوائف في لبنان. وفي حال كان المقابل هو عدم قيام واشنطن بتنفيذ تهديداتها بدون مقابل أو مكسب حقيقي للبنان، فهذا سيشعل الرأي العام اللبناني بنقاشات حول ضرر تصدر الحزب للمشهد السياسي وسيطرته على مفاصل الدولة واتخاذها رهينة ودرعاً يواجه بها القوى الخارجية المعادية له لا للبنان. 
أما في حال كان المقابل هو رفع الفيتو الأمريكي عن تقديم المساعدات من الدول المصنفة بأنها من أصدقاء لبنان، مثل فرنسا وألمانيا وبعض الدول الخليجية، فقد يكون هذا هو السيناريو الأفضل للحزب، إذ سيبدو باعتباره تنازلاً من الحزب من أجل مصلحة اللبنانيين.    

 

الهوامش:   

1- Remarks by President Trump, The White House, 19/3/2020   
2- كلمة السفيرة الأميركية الى لبنان دوروثي ك. شيا، السفارة الأمريكية في بيروت، 13/03/2020   
3- دياب التقى ريتشارد ووفد حركة التلاقي والتواصل، موقع لبنان 24، 18/02/2020   
4- ماذا طلب باسيل من السفيرة الأميركية؟، التيار الوطني الحر، 14/2/2020   
5- السفيرة ريتشارد في كلمة وداع للبنانيين، السفارة الأمريكية في بيروت، 28/02/2020   
6- حتى عرض مع السفيرة الأمريكية ظروف إخراج فاخوري من السفارة، الوكالة الوطنية للإعلام اللبنانية، 20/03/2020   
7- حساب حسان دياب في تويتر   
8- باسيل يستحصل على عفو للفاخوري تجنباً للعقوبات الأميركية ضده، الشرق أونلاين، 17/03/2020   
9-  الدولة تكرّم جزّار الخيام، جريدة الأخبار اللبنانية، 12/9/2020   
10- الوزير باسيل يرد على الافتراءات!، التيار الوطني الحر،   
11- تفاصيل تبرئة و"تهريب" العميل عامر الفاخوري، جريدة المدن، 16/03/2020      
12- اللجنة المركزية للإعلام: رئيس التيار لا يحتاج إلى شهادة في الوطنية من احد، لا في السيادة ولا في استقلالية القرار، التيار الوطني الحر، 20/03/2020    
13- حزب الله حول قرار إطلاق سراح العميل الفاخوري: الضغوط الأميركية أثمرت.. وكان من الأشرف لرئيس المحكمة وأعضائها الاستقالة، قناة المنار، 17/03/2020   
14-   كلمة السيد حسن نصر الله حول آخر التطورات، المقاومة الإسلامية-لبنان، 20/3/2020   
15- حزب الله حول قرار إطلاق سراح العميل الفاخوري: الضغوط الأميركية أثمرت.. وكان من الأشرف لرئيس المحكمة وأعضائها الاستقالة، قناة المنار، 17/03/2020   
16- حزب الله حول قرار إطلاق سراح العميل الفاخوري: الضغوط الأميركية أثمرت.. وكان من الأشرف لرئيس المحكمة وأعضائها الاستقالة، قناة المنار، 17/03/2020   
17-  كلمة السيد حسن نصر الله حول آخر التطورات، المقاومة الإسلامية-لبنان، 20/3/2020   
18  حزب الله حول قرار إطلاق سراح العميل الفاخوري: الضغوط الأميركية أثمرت.. وكان من الأشرف لرئيس المحكمة وأعضائها الاستقالة، قناة المنار، 17/03/2020   
19- Sens. Cruz, Shaheen propose sanctions against Lebanese officials over American prisoner, Fox News, 24/2/2020   
20- American detained in Lebanon released after 6 months, Fox News, 19/3/2020