الوصاية على المسجد الأقصى وتأثير الاتفاقيات

الوصاية على المسجد الأقصى
أثارت الأحداث في القدس خلال يوليو/تموز العام الماضي، التي تلت مقتل جنديين من قوات الاحتلال على أحد أبواب المسجد الأقصى، وما تبعها من إغلاق للمسجد وتفريغه من موظفي دائرة الأوقاف الأردنية، وحراك الشارع الفلسطيني في القدس من خلال أداء الصلوات والاعتصام والتظاهر، مما أدى في النهاية إلى تراجع الحكومة الإسرائيلية عن إجراءاتها الأمنية على أبواب المسجد؛ عددا من القضايا وأبرزها حقيقة الوصاية الأردنية على المسجد الأقصى.

فهل هناك علاقة بين السياسات الإسرائيلية والممارسات اليومية على الأرض وبين الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة الإسرائيلية والجانب الأردني والتفاهمات الأردنية الفلسطينية في سياق الوصاية على الأماكن المقدسة في المدينة المقدسة؟ لفهم ذلك كان لا بد لنا من دراسة بعض أهم الاتفاقيات المتعلقة بالمسجد الأقصى ومحاولة تفسير الممارسات الإسرائيلية في ضوئها، للخروج باستدلالات صحيحة تساعدنا في فهم الوصاية الأردنية في اتفاق وادي عربة، وأبعاده القانونية التي تنعكس إما سلبا أو إيجابا على واقع السيطرة الإسرائيلية على المسجد الأقصى.

اتفاقية وادي عربة تثير العديد من التساؤلات حول طبيعة الدور الأردني الذي تضمنته بنود هذه الاتفاقية بخصوص المقدسات في مدينة القدس ومنها المسجد الأقصى

لقد تضمنت المادة التاسعة من معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية الموقعة في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1994 بخصوص الأماكن ذات الأهمية التاريخية والدينية ما يلي:

1 – سيمنح كل طرف للطرف الآخر حرية الدخول للأماكن ذات الأهمية الدينية والتاريخية.

2 – وبهذا الخصوص وبما يتماشى مع إعلان واشنطن، تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستولي إسرائيل أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن.

3 – سيقوم الطرفان بالعمل معاً لتعزيز حوار الأديان بين الأديان التوحيدية الثلاثة بهدف بناء تفاهم ديني والتزام أخلاقي وحرية العبادة والتسامح والسلام (وزارة الخارجية الإسرائيلية 2013).

وفي محاولة لفهم المدلولات القانونية والسياسية لهذه الوصاية لا بُد من البحث والتقصي بشأن اتفاقية السلام الأردنية-الإسرائيلية التي وقعت في عام 1994 في وادي عربة.

أولاً: اتفاقية وادي عربة – تحليل الدور الأردني:
تثير اتفاقية وادي عربة العديد من التساؤلات حول طبيعة الدور الأردني الذي تضمنته بنود هذه الاتفاقية بخصوص المقدسات في مدينة القدس ومنها المسجد الأقصى، وما نوع الوصاية الأردنية التي قد تنبثق عن مثل هذه الاتفاقية، حيث إن هذه الاتفاقية لم تتضمن تفاصيل واضحة حول الصلاحيات التي يمتلكها الأردن بهذا الخصوص، ويلاحظ أن العبارات والألفاظ التي تضمنها هذا الاتفاق بخصوص الوصاية والرعاية الأردنية للمقدسات ومنها المسجد الأقصى تأخذ صفة المجاملة المعنوية للأردن أكثر مما تحمله من مبادئ قانونية ملموسة توضح صلاحيات الأردن في هذه المقدسات.

الطرف الأردني يتمتع هو ومواطنوه بحرية الدخول للأماكن الدينية، وفي المقابل فإنّ الطرف الإسرائيلي يتمتع هو نفسه بحرية الدخول للأماكن ذات الأهمية الدينية والتاريخية

فقد تحدث البند الأول من المادة التاسعة في معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية الموقعة في 1994 في ما يعرف باتفاقية وادي عربة عن سماح كل طرف للطرف الآخر بحرية الدخول للأماكن ذات الأهمية الدينية والتاريخية أي أنّ الطرف الأردني يتمتع هو ومواطنوه بحرية الدخول للأماكن الدينية، وفي المقابل فإنّ الطرف الإسرائيلي يتمتع هو نفسه بحرية الدخول للأماكن ذات الأهمية الدينية والتاريخية التي تخص الطرف الأردني؛ فهل يشمل ذلك (حرية الوصول الإسرائيلية) للأماكن الدينية التي تخضع للوصاية الأردنية قبل التوقيع على هذه الاتفاقية ومنها المسجد الأقصى؟ هذه أول ثغرة تثير الجدل ضمن بنود هذه الاتفاقية.

أما البند الثاني من المادة التاسعة فإنه يتضمن احترام إسرائيل الدور الحالي الخاص بالمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وبالطبع هذا يشمل المسجد الأقصى، فهل احترام إسرائيل لهذا الدور يتضمن بالضرورة الحفاظ على صلاحيات تضمنها هذا الدور كما كان في عام 1967، أم أنه قد يتضمن انتزاع قسم من هذه الصلاحيات مثل التحكم في أبواب المسجد الأقصى بالرغم من احترام هذا الدور، فما مفهوم احترام الدور المقصود؟

وفي ظل تزايد الأطماع الإسرائيلية في المسجد الأقصى المبارك وتزايد الاعتداءات الإسرائيلية عليه وما تبعه من ردود فعل جماهيرية غاضبة في الساحة الفلسطينية، ارتأت الإدارة الأميركية بضغط إسرائيلي عمل اتفاق فرعي حول المسجد الأقصى بين إسرائيل والأردن برعاية أميركية بتاريخ 24 أكتوبر/تشرين الأول 2015، تضمن هذه البنود المعلنة:

1- أن تحترم "إسرائيل" "الدور الخاص" للأردن كما ورد في اتفاقية السلام بين الطرفين، و"الدور التاريخي للملك عبد الله الثاني".

2- "إسرائيل" ستستمر في تطبيق "سياستها الثابتة في ما يخص العبادة الدينية"، في المسجد الأقصى بما فيها الحقيقة الأساسية بأن "المسلمين هم من يصلون" وبأن "غير المسلمين هم من يزورون".

3- "إسرائيل" ترفض تقسيم المسجد الأقصى، وترفض "أي محاولة" للقول بغير ذلك.

4- "إسرائيل" ترحب بالتنسيق المتزايد بين السلطات الإسرائيلية وإدارة الأوقاف، بما في ذلك "التأكد من أن الزوار والعبّاد يبدون الانضباط ويحترمون قداسة المكان انطلاقاً من مسؤوليات كلٍّ منهم".

5- موافقة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على اقتراح الأردن "بتوفير" تغطية مصورة على مدار 24 ساعة لكل المواقع داخل المسجد الأقصى، مما يوفر سجلاً "شاملاً وشفافاً" لما يحصل فيه، وهذا قد يثبط كل من يحاول تشويه قداسة المكان" (مؤسسة القدس الدولية، 2015، ص2).

مصادقة الأردن على مصطلح الدور الحالي يلغي حقها القانوني في المطالبة بأي صلاحيات أو منجزات كان يتمتع بها قبل الدور الحالي

 وبالرغم من أن هذا الاتفاق الذي تم برعاية وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري أكد احترام إسرائيل للدور الأردني، إلا أنه أكد على حق غير المسلمين بما يشمل اليهود بزيارة المسجد الأقصى المبارك، وهذا تطور خطير يؤكد أن الغموض في اتفاق وادي عربة كان تمهيدا لإضعاف الدور الأردني في المسجد الأقصى المبارك من خلال تحويل زيارة اليهود للأقصى إلى حق مشروع، بعد أن كان غير واضح في اتفاق وادي عربة.

المتأمل في البند الأول من المادة التاسعة يرى أنه يتعلق بحرية الدخول للأماكن الدينية والتاريخية وهذا لم يستثن فيه أي من الطرفين، وبالتالي فإن ملحق هذه الاتفاقية المعلن عنه في أكتوبر/تشرين الأول 2015 يفصل ويفسر البند الأول من اتفاق وادي عربة على أساس أن اليهود لهم حق مكتسب في زيارة المسجد الأقصى، وبهذه الطريقة تم توظيف الغموض في هذا البند لتحقيق إنجاز مهم في مسيرة إحكام السيطرة الإسرائيلية على المسجد الأقصى.

وأعلن هذا الاتفاق الفرعي عام 2015 من قبل وزير الخارجية الأميركي ولم يكتب هذا الاتفاق الملحق أو يوقع وهذا يقربه إلى صيغة مبادرة أميركية أكثر من كونه اتفاقا معلنا، وهذا يعيدنا إلى البند الثاني من المادة التاسعة في اتفاق وادي عربة؛ إذ نرى أنه تم استخدام مصطلح الدور الحالي الخاص بالمملكة الأردنية الهاشمية، والذي يخص المقدسات الدينية والتاريخية بما يشمل المسجد الأقصى المبارك، وبالتالي فإن مصادقة الأردن على مصطلح الدور الحالي يلغي حقه القانوني في المطالبة بأي صلاحيات أو منجزات كان يتمتع بها قبل الدور الحالي الذي يتمتع به، مع أنه من المعلوم التراجع الذي حصل في الدور الأردني في المسجد الأقصى مقارنة بفترة ما بعد احتلال القدس وفترة ما قبل التوقيع على اتفاقية وادي عربة وما تحتويه من بنود حول المقدسات، ومنها المسجد الأقصى.

الوصاية الأردنية على الأماكن المقدسة في القدس تهدف إلى احترام المكانة الدينية للمقدسات في القدس والمحافظة عليها وتأكيد الهوية الإسلامية الصحيحة

ثانياً: اتفاقية أبو مازن – الملك عبد الله:
جاء في مقدمة اتفاق أبو مازن-الملك عبد الله حول الوصاية الأردنية على المقدسات في القدس والمسجد الأقصى الموقع في عمان بتاريخ 31 مارس/آذار 2013 "أن رعاية المملكة الأردنية الهاشمية المستمرة للأماكن المقدسة تجعله أقدر على العمل للدفاع عن المقدسات الإسلامية وصيانة المسجد الأقصى". (الموقع الرسمي لجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين, 2013)

وتضمن البند الأول من المادة الثانية في هذه الاتفاقية أن الوصاية الأردنية على الأماكن المقدسة في القدس تهدف إلى احترام المكانة الدينية للمقدسات في القدس والمحافظة عليها وتأكيد الهوية الإسلامية الصحيحة، واحترام أهميتها التاريخية والثقافية والمعمارية وكيانها المادي، بما يشمل متابعة مصالح الأماكن المقدسة وقضاياها في المحافل الدولية ولدى المنظمات الدولية المختصة والإشراف على مؤسسة الوقف في القدس وممتلكاتها وإداراتها وفقا لقوانين المملكة الأردنية الهاشمية.

أما البند الثالث من المادة الثانية فينص على اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية بدور ملك المملكة الأردنية الهاشمية المبين، وتلتزمان باحترامه.

وفي تعليق لوزير الأوقاف الفلسطيني السابق محمود الهباش أفاد "بأنّ بنود هذا الاتفاق ليست جديدة ولم تنشئ واقعا جديدا، وإنما جاءت لتأكيد واقع قائم بالفعل وهو الإشراف الأردني على الأماكن المقدسة في مدينة القدس". (الشرق الأوسط، 2015)

إن هذا التصريح يبدو كأنه يصف ما هو قائم فعلا على الأرض، كما أنه لا ينكر أن الوصاية الأردنية لها دور إيجابي في تأجيل الهيمنة الإسرائيلية الكاملة على المسجد الأقصى. إلا أن المتتبع للتغيرات التي طرأت على الدور الأردني في رعاية المقدسات في القدس، ومنها المسجد الأقصى، وفي تعليق الهباش على الاتفاقية يؤكد أنها "لن تغير الوضع القائم لكون إسرائيل صاحبة السلطة عمليا على المقدسات والأقصى، وسيقتصر دور الأوقاف الإسلامية على رعاية الأقصى وتنظيفه وترتيبه وإدارته" (الشرق الأوسط، 2015)، وهذا التصريح يثير تساؤلين:

أولهما: ما دامت السلطة الفلسطينية حصلت على صفة دولة مراقب وغير عضو بتاريخ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 في الأمم المتحدة لماذا استبعد الدور الفلسطيني كليا، وتم تغييبه عند التوقيع على الاتفاقية الأردنية الفلسطينية لحماية المسجد الأقصى؟

ثانيهما: لماذا أبدى الطرف الأردني قبوله الضمني بتغيير الوضع القائم، وتحويل "زيارة" اليهود إلى حق مكتسب، واقترح آلية رقابية كانت محل رفض أردني متتالٍ ولا تحقق أي ضمانات؟

الوصاية الأردنية على المسجد الأقصى شكلية حسب الاتفاقيات بين الجانبين الأردني والإسرائيلي، في حين استطاعت إسرائيل تقليص الرعاية الأردنية

هذان السؤالان يشيران إلى وجود قصور في هذا الاتفاق تخلى فيه الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن أي دور محتمل للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير في المسجد الأقصى، فرغم أنه من المعروف أنّ السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير لن تتمكنا من فرض أي نفوذ لهما في المسجد الأقصى، فإنه بإمكانهما المطالبة بدور رقابي فلسطيني ذي أبعاد سياسية يمكنه الضغط على المستوى الدولي باتجاه وقف الانتهاكات الإسرائيلية والاقتحامات للمسجد الأقصى، وتستمد هذه المطالبة التي لم تتم من كون منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني من ناحية، وحصول السلطة الفلسطينية على عضوية مراقب في الأمم المتحدة من ناحية أخرى.

خلاصة
يلاحظ المتتبع لسياسة كل من الحكومة الأردنية والسلطة الفلسطينية في إدارة الصراع حول المسجد الأقصى أن هذه السياسة منسجمة ومتناسقة مع التوجهات والضغوط الأميركية، لكونها تخدم سياسة تقديم تنازلات للجانب الإسرائيلي مقابل محافظة إسرائيل على امتيازات شكلية للجانب الأردني، ودون أن يجني الجانب الفلسطيني فائدة ملموسة.

الوصاية الأردنية على المسجد الأقصى شكلية حسب الاتفاقيات بين الجانبين الأردني والإسرائيلي، في حين استطاعت إسرائيل تقليص الرعاية الأردنية من خلال تقييد صلاحيات مديرية الأوقاف الإسلامية واقتصارها على الأمور الإدارية ومرجعيتها قائد شرطة الاحتلال بكل ما يتعلق بأمور المسجد الأقصى المبارك.

المصدر : الجزيرة