خطأ البرادعي القاتل

خطأ البرادعي القاتل

05 ديسمبر 2018
+ الخط -
يعد المدير السابق لوكالة الأمم المتحدة للطاقة النووية، والفائز بجائزة نوبل للسلام، محمد البرادعي، أحد أبرز الوجوه السياسية المعارضة على الساحة المصرية في العقد الأخير، وخصوصا منذ تقاعده وعودته إلى مصر، ووقوفه ضد نظام حسني مبارك قبل ثورة يناير 2011. وقد جمعت القوى السياسية، في مقدمتها الإخوان المسلمون، مئات آلاف التوقيعات لدعم حملة البرادعي للترشح للرئاسة في مواجهة مبارك. كما دافع البرادعي عن "الإخوان" وحقهم في المشاركة السياسية. وبعد الثورة، مثل البرادعي أحد أهم رموز التيار "الثوري"، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق. وهو التيار الذي ضم غالبية "شباب الثورة"، أصحاب التوجهات المعارضة للتيار الديني، وعارض المجلس العسكري وخريطة الطريق التي طرحها. وانتهى الحال بالبرادعي مقاطعا الانتخابات الرئاسية في 2012.
وبعد الانتخابات، ظهر البرادعي قائدا لجبهة الإنقاذ، والتي ضمت عشرات الأحزاب، ومثلت الجبهة المقابلة للتيار الديني المسيطر. وعلى الرغم من مشاركة البرادعي في الحكومة الانتقالية التي حكمت مصر بعد الانقلاب العسكري (نائبا لرئيس الجمهورية المؤقت عدلي منصور) إلا أنه سرعان ما استقال اعتراضا على المذبحة في ميدان رابعة العدوية (أغسطس/ آب 2013)، ليغادر مصر، ويستمر في التغريد بمواقفه السياسية التي تطالب دائما بالديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى بات يسمّى أحيانا "صوت الضمير".
وعلى الرغم من نشاط البرادعي على "تويتر"، إلا إنه نادرا ما يدلي بتصريحات إعلامية، كما تخلو لقاءاته الإعلامية من النقد الجاد لذاته، ولا تكشف كثيرا عن الدور الذي لعبه قبيل الانقلاب العسكري، وكيف قبل المشاركة في إعلان خريطة الطريق والحكومة الانتقالية، وهي خطوات أسست لعودة الحكم العسكري إلى مصر، والقضاء على مكتسبات الثورة.
ومن هنا أهمية شهادات جمعها مراسل صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في القاهرة خلال 
سنوات الثورة المصرية، ديفيد كيركباتريك، في كتابه "في أيادي العسكر" (2018)، حيث اعتمد على شهادات قيادات في جبهة الإنقاذ، كالأكاديمي المعارض عمرو حمزاوي، كما اعتمد على اتصالاتٍ هاتفية أجراها مع البرادعي نفسه. وتتميز شهادة كيركباتريك بوقوفها على مسافة واحدة من مختلف القوى السياسية المصرية والتزامها بالديمقراطية.
لذا يرسم كيركباتريك صورة فريدة، وربما غير مألوفة، لما هو معروف عن البرادعي في وسائل الإعلام العربية، من أهم ملامحها مواقف البرادعي الليبرالية والمتمسكة بالديمقراطية قبل الثورة ضد حكم مبارك، وخلال الفترة الانتقالية ضد حكم المجلس العسكري، هذا بالإضافة إلى علاقات البرادعي بالخارج، وكيف أن منزله كان مزارا لكبار المسؤولين الغربيين، مثل وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، وكيف قام بالتنسيق بين جبهة الإنقاذ والعواصم الغربية. ومن ملامحها أيضا قلة ظهور البرادعي في كتاب كيركباتريك، لسببين، أولهما حديث كيركباتريك المباشر عن ضعف شعبية البرادعي بين المصريين، مقارنة بشعبيته بين الصحافيين الأجانب و"نخب القاهرة"، حيث يكتب الصحافي الأميركي أن "الاستطلاعات المتوفرة أكدت أنه أكثر شهرة بين الصحافيين الأجانب مقارنة بالمصريين". والسبب الثاني تركيز الكتاب على الكيانات الكبرى التي تحكّمت في المشهد السياسي المصري بعد الثورة، وخصوصا القوات المسلحة والقوى الإقليمية، كالسعودية والإمارات وإسرائيل، والتي مارست ضغوطا كبيرة على العواصم الغربية لدعم الانقلاب العسكري، ودور العواصم الغربية نفسها.
وهذا لا يعني التقليل من دور البرادعي، لكنه لا يظهر في الكتاب، كما يظهر شخص كالرئيس المصري المعزول محمد مرسي، أو جماعة كالإخوان المسلمين، أو حتى القوى الجماهيرية غير المنظمة التي تظاهرات ضد المجلس العسكري في العام التالي للثورة.
ويكتب كيركباتريك أنه لما انطلقت شرارة ثورة يناير المفاجئة، بعد مظاهرات الشباب في 25 يناير كان البرادعي في مكتبه في فيينا، عاكفا على كتابه مذكراته، ولما سأله كيركباتريك عن المظاهرات، قال له: "بصراحة، لم أعتقد أن الشعب جاهز (للثورة)". ويشير كيركباتريك بعد ذلك لمشاركة البرادعي في مظاهرات 28 يناير في مسجد مصطفى محمود، وكيف تعرض للضرب بخراطيم المياه وقنابل الغاز، حيث وصف البرادعي ما يحدث بأنه "عمل بربري"، ثم "انسحب إلى فيلته في مجمعٍ محاط بالأسوار في الجيزة".
أما الدور الأبرز للبرادعي (أو الملمح الأبرز وغير المألوف لصورته كما يرسمها الكتاب) فيظهر في قيادة جبهة الإنقاذ، والتي تأسست في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 اعتراضا على "الإعلان الدستوري". ويفيد كيركباتريك بأن الجبهة ضمت، منذ بدايتها، بعض أبرز وجوه نظام حسني مبارك، وأنها هاجمت القصر الجمهوري، وهي تعلم أن الشرطة لا تحمي محمد مرسي، كما عرف بعض أعضائها بعلاقاتهم الوثيقة بالمخابرات، وأن دبلوماسيين غربيين اشتكوا له دائما من أن مرسي رفض تقديم أي تنازلاتٍ كبرى، وأن المعارضة رفضت الجلوس معه للحوار. ويوضح أن "أعضاء في الجبهة عرفوا من بداية 2013 أن المخابرات تعمل على إسقاط حكم مرسي"، وكان يقولون في اجتماعات الجبهة إن "مؤسسات الدولة معنا". وظل البرادعي في البداية يرفض الانقلاب العسكري بشدة، مؤكدا على أن الغرب لن يقبله، كما قابل قادة حزب الإخوان المسلمين في منزله في فبراير/ شباط 2013 للنقاش بشأن الانتخابات البرلمانية.
ولكن شيئا ما حدث بعد ذلك، فمع بداية أبريل/ نيسان 2013، أعلنت الجبهة مقاطعة الانتخابات البرلمانية، وتراجع قلق البرادعي من الانقلاب العسكري، ومن موقف الغرب من الانقلاب. ويكشف كيركباتريك، مستشهدا بلقاءات أجراها مع عمرو حمزاوي، الذي ذكر 
للصحافي الأميركي أن الجبهة تمسّكت، بعد أبريل/ نيسان، بدعوة الجيش إلى التدخل، وأن "الخطة كانت واضحة للجميع، تعبئة جماهيرية، يعقبها نزول الدبابات للشوارع، ثم انتخابات رئاسية". وفي مايو/ أيار، طلب البرادعي من حمزاوي (المعارض للانقلاب) التنحي جانبا، لأن "بدون الجيش، ليس لدينا أي فرصة". ويكتب كيركباتريك أن البرادعي تردّد على مكتب الصحافي الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، والذي نقل الرسائل بين البرادعي وحركة تمرد وعبد الفتاح السيسي، وأن البرادعي سأل هيكل في أحد اللقاءات: "أين السيسي؟ ماذا ينتظر؟".
وفي أواخر مايو/ أيار، اتصل قادة كبار في القوات المسلحة بأعضاء في جبهة تمرّد، لتشجيعهم على التظاهر ضد مرسي، مؤكدين أن الجيش سيحمي المظاهرات. وفي بداية يونيو/ حزيران، أعطي الجنرالات إشارات واضحة للجبهة بأنهم ينوون عزل مرسي.
ويشير كيركباتريك إلى محتوى اتصال مهم، أجراه البرادعي معه في اليوم التالي للانقلاب، حيث بادر بالقول إنه انتهى لتوه من الحديث مع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، ومنسقة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كاثرين أشتون، وأنه بذل جهدا كبيرا لإقناعهما بأن عزل مرسي يعني "بداية جديدة" للتحول الديمقراطي في مصر، وأن "الثورة" لديها فرصة ثانية لعمل كل شيء بالأسلوب الصحيح. وأكد البرادعي أنه "سيكون أول من يرفع صوته، ويتحدث بوضوح إذا رأى أي علامة على تراجع الديمقراطية"، وأنه متأكد من احترام الجنرالات حكم القانون والمدنيين، كما عبر عن ثقته في النائب العام (وهو أحد رجال حسني مبارك) وأن "من يقبض عليهم يكون بناء على أمر من النائب العام، وليس لكونهم أعضاء بالإخوان"، وأن مرسي سيعامل "بكرامة واحترام"، وتحدث كأنه يمتلك السلطة قائلا: "أكدت لكل السلطات الأمنية هنا أن كل شيء يجب أن يخضع للقانون".
ويكتب كيركباتريك أنه شعر "بالأسف من أجل" البرادعي بعد الاتصال، لأنه كان "فائزا بجائزة نوبل، ولكنه صدّق كل ما يقوله له الجنرالات". كما يشير إلى أن البرادعي لم يعترف حتى الأن بدوره في الانقلاب، وكيف وقع في خطأ قاتل، وهو الوثوق في العسكر، ما جعله يشارك في تدمير ما كان يحاول الحفاظ عليه والدفاع عنه.