ولد درويش البحر، بحارًا فقيرًا متزوجًا من سيدة اسمها ملوك، امرأة فقيرة وأمية، كل ما يمتلكه درويش ورشة صغيرة في حي كوم الدكة بالأسكندرية، يصنع القباقيب والكراسي الخشبية، وبصعوبة يحصل على قوت يومه.

وفي الساعة التاسعة من صباح يوم 17 مارس عام 1892، وضعت ملوك طفلها الثالث فكانت نشأته نشأة دينية وأصبح منشد ومغني في الموالد والأفراح الدينية، لكنه تجرد منها وأصبح الملحن سيد درويش الذي نحتفل اليوم بذكرى ميلاده الـ127، والذي ثار وألهب الحماسة في نفوس الشعب المصري في ثورة 1919.

سيد درويش يرتدي ملابس رجال الدين ويقود الأطفال في ترتيل الأناشيد:

شيخًا معممًا يحفظ القرآن ويجوده، هكذا كان يريد أبوه أن يراه حتى أدخله كتاب حسن حلاوة نفس الحي الذي يعيشون فيه؛ ليحفط القرآن ويتعلم مبادئ القراءة والكتابة، حتى أجاده سيد درويش وهو في سن العاشرة وفي نفس الفترة فقد والده، فصممت والدته أن يستكمل تعلمه ونقلته لمدرسة أولية، وحفظ الأناشيد الدينية والقومية، وقاد الأطفال في ترتيل الأناشيد.

خرج سيد درويش، من حدود الحي وأصبح يرتاد الأحياء الشعبية الآخرى ويحضر الأفراح والموالد الدينية، فاشترت له أمه ملابس رجال الدين وهو في الـ13 من عمره، وتقدم للالتحاق بالمعهد الديني التابع لمسجد العباس – المرسي بالأسكندرية، وما بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من عمره، انضم لفرقة غنائيه بالموالد والأفراح، وتوقف عن الدراسة ليتفرغ للغناء والإنشاد مقلد لمشاهير المطربين والمقرئين.

سيد درويش مساعد نقاش

تزوج في الـ16 من عمره، وفشل في الغناء بالموالد والأفراح فعمل كمساعد نقاش، وكان يغني للعمال خلال فترة العمل، للتلطيف من حدة العمل، حتى طلب منه المقاول التوقف عن العمل ويتفرغ بالغناء للعمال.

فشل الصدف

الصدفة، في ذات يوم جلس الممثل أمين عطا الله شقيق سليم عطا الله صاحب الفرقة التمثيلية التي تعمل بالإسكندرية، على المقهى الواقع أمام العمارة التي يغني بها درويش، وانبهر بصوته وطلب منه على الفور الالتحاق بفرقة أخيه، وفي نفس العام 1908، لكنها فشلت لسوء الأحوال الاقتصادية، وسافر سيد درويش، لبيروت ودمشق وحلب لقراءة القرآن في المساجد والبحث عن أساتذه لتعلم الموسيقى الشرقية، لكنه عاد للإسكندرية بعد 9 أشهر من سفره، وعاد لفرقة عطا الله في 1910 وسافر إلى لبنان وحقق نجاحًا ساحقًا.

من النجاح للفشل في القاهرة والعودة للإسكندرية

تردد اسمه في الأوساط الفنية ووصلت أنباء نجاحه في الغناء لكبار فناني القاهرة وذهبوا إليه ليسمعوه، حتى غنى من ألحانه غناء غير مألوف للجمهور في إحدى فصول رواية لسلامة حجازي لكن الجمهور لم يرضى عنه، فعاد للأسكندرية مستاء من فشله، وعمل كاتب حسابات في متجر للأثاث القديمة يملكه زوج أخته الكبرى.

أغاني سيد درويش

خلال فترة وجوده بالقاهرة سنة 1917 وبين وفاته في سبتمبر 1923، لحن سيد درويش 22 أوبريت أولهم بعنوان «كيلوباترا ومارك أنطونيو».

وفي خلال حياته الفنية بين الإسكندرية والقاهرة ألف سيد درويش نحو 10 أدوار للتخت، وهي سيمفونيات عربية، و17 موشحًا على النمط القديم، لحن أيضا ما يقرب من 50 طقطوقة وهي الأغاني الخفيفة، ومن ألحانه:

انا هويت وانتهيت، وتحيا الأميرة شهرزاد.

ده وقتك ده يومك يا بنت اليوم، ودور عشقت حسنك.

دورعواطفك دى اشهر من نار، ودور يا فؤادى ليه بتعشق

فقد كان عام 1917 هو بدايه نشاط سيد درويش الغنائي، بالتعاون مع فرقة جورج أبيض، ومن ثم تعاقد مع فرقة نجيب الريحاني، وخلال هذه الفترة نشبت أحداث ثورة 1919.

ثورجي بالفن

لم يكن سعد زغلول، وحدة زعيم ثورة 1919، وهو من يقود الكفاح السياسي ضد الاحتلال الإنجليزي فكان بجانبه زعيم شعبي آخر هو سيد درويش، لكن بمفاهيم أخرى، فاستخدم موهبته وأصبح فنان الشعب والمحرك الأول لفن الثورة.

سالمة يا سلامة

كتبت الأغنية في خضم الأحداث الممهدة للثورة وقدمت لأول مرة بعد شهرين من اندلاعها، لذلك كان طبيعيًا أن تحمل بأهداف ترسيخ الوطنية وتعظيم الإحساس بالفخر في قلوب المصريين والتركيز على إيجابيات الشخصية الوطنية من صبر وتحمل ودأب وجد واجتهاد وتكيف مع مختلف الظروف، وكانت كلمات وألحان سيد درويش وخيري بديع.

أهو ده اللي صار

هذه الطقطوقة من الأغاني التي تأخذ بعدًا عاطفيًا تعبيريًا مع التركيز على ملمح أو أكثر مما يزيد تعلق قلب المصري بوطنه ويدعم اعتزازه بمجتمعه، وهو شكل تنتمي له «أهو ده اللي صار» بامتياز.

والتزم فيها سيد درويش بالقالب التقليدي، الذي يتناسب مع مضمون الكلمات فنسمع المذهب المكون من بيت واحد هو «أهو ده اللي صار وآدي اللي كان.. مالكش حق تلوم عليا» والتعبير عما آلت إليه الأوضاع في مصر عشية ثورة 1919، ليبدأ بالتدليل على أسباب قيام الثورة متسائلًا: «تلوم عليا إزاي يا سيدنا» فالسبب واضح هنا: «خير بلدنا ماهوش في إيدنا».

قوم يا مصري

قبل سيد درويش، لم يكن هناك نشيد قومي متداول بين أفراد الشعب، وقد ولد أول نشيد مع تلحينه لـ«قوم يا مصري» في رواية «قولوله» من كلمات بديع خيري في عام 1919، داعيًا الجماهير للنهضة والمشاركة: «قوم يا مصري مصر دايما بتناديك..خد بنصرى نصرى دين واجب عليك»، وأشارت بكلماتها لنفي سعد زغلول في: « نيلها جى السعد منه» و«يوم مبارك تم لك فيه السعود».

وبلغ سيد درويش، الذروة في تلحين هذا القالب الثوري في عام 1921؛ مع تقديم أوبريت «شهر زاد»، والذي كان مليئا بالألحان الوطنية والأناشيد الحماسية التي تتغنى بأمجاد الوطن، أو زاد طابع عسكري لبث الشجاعة والإقدام عند الجنود والشعب.

وقدم خلال سياقها الدرامي أناشيد: «أنا المصري كريم العنصرين - أحسن جيوش في الأمم جيوشنا- دقت طبول الحرب ياخيالة - الجيش رجع م الحرب - اليوم يومكم ياجنود»، التي استطاع بذكاء من خلالها تمجيد الجيش المصري والاعتزاز بالجنسية المصرية، وتأييد الثورة، وحقيقة انتماء المصري إلى بلده مهما كانت الضغوط التي يعانيها.

ده يومك يابنت اليوم

استعراض لحنه سيد درويش في عام 1923، وكان جزء من رواية «الانتخابات» من تأليف أمين صدقي، وتقديم فرقة علي الكسار، وهي آخر المسرحيات التي شارك فيها سيد درويش قبل وفاته في نفس العام.

خد البزة واسكت خد البزة ونام

طقطوقة لحنها سيد درويش وغنتها الست نعيمة المصرية (1894-1976)، و المطرب زكي مراد (1880-1946)، وضمت الطقطوقة سياق وطني الطابع تحاول فيه الأم حث ابنها على بذل الجهد والعرق لرفعة شأن بلاده، وتحميسه على خدمة وطنه في « إن شالله أشوفك.. في وسط الجدعان، ولابس طربوشك.. نازل في الميدان، وتبذل مجهودك.. وتفدي الأوطان».