السعودية كما رأيتها

03:06 صباحا
قراءة 4 دقائق
حبيب الصايغ

لا أميل إلى كتابة الذات خارج الكتابة الإبداعية، لكن انطباعات أسبوع في الرياض تُرغم من حيث الموضوع على أن تكون كتابتها مزيجاً من الذاتي والموضوعي، وربما طغى أحدهما على الآخر هنا أو هناك. ولقد رأيت أن الكتابة عن المملكة العربية السعودية الشقيقة واجبة؛ بل تقع في صميم الواجب الوطني والقومي والأخلاقي، خصوصاً في هذه المرحلة التي تشهد هجمة شرسة غير مبررة على السعودية، وطناً وقيادة وشعباً، من عرب ومن غير عرب.
نعم أصحاب هذه الهجمة القائمة على الافتراءات والأكاذيب، شرذمة قليلون وسط أصحاب النظرة الموضوعية التي تضع الأشياء والأفكار في مواضعها، بحيث لا تسهم في إثارة الفوضى أو اختلاط كل حابل بكل نابل. الأصل عدم المبالغة، ونقل الواقع كما هو، وذلك ما نحاوله اليوم في هذه الكلمة.
هذه الكلمة تستخلص من زيارة أسبوع كامل، وسط عدد من رؤساء اتحادات الكتّاب العربية، وعدد كبير من الكتّاب والأدباء والمثقفين والأكاديميين ورجال الدين والسياسيين، والمسؤولين والإعلاميين. وأول ما يلفت النظر أن المشار إليهم من ضيوف المهرجان الوطني للثقافة والتراث (الجنادرية)، كانوا من مختلف المناهل والمشارب والاتجاهات. لم يكونوا من اتجاه واحد، أو من المحسوبين تقليدياً على السعودية، ما عُدَّ لدى الجميع مؤشراً على تغيير حقيقي يحدث في السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وبتوجيهات منه، ومن الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع. هذا المؤشر سيُلاحظ في ما بعد في العديد من مظاهر العمل والحياة في السعودية، لجهة وعي المشكلات والإفصاح عنها في أفق من الشفافية، وقد اشتمل برنامج «الجنادرية» بعد الافتتاح على ندوات فكرية شارك فيها سعوديون وعرب، وكانت المرأة السعودية في مقدمة المشاركين في الندوات، والمساهمين في إنجاحها سواء بالمداخلات أو بالحضور، وقد ذهل حضور ندوة «تمكين المرأة السعودية»، وكانت على المنصة نائبة وزير العمل والتنمية الاجتماعية، وعدد من المعنيات والمسؤولات، ومسؤول عن تنمية الموارد البشرية في «أرامكو»، بأرقام المنجز في تمكين المرأة، كما أدهشهم إثبات غير المنجز بالنسبة الدقيقة، والرقم الصحيح والمعلومة الصادقة، من دون أية مساحيق أو محاولة تجميل؛ الأمر الذي يضفي على أجواء المداولات، وعلى الحاضر السعودي كله، مناخاً جميلاً من الثقة والطمأنينة.
هذه هي المرة الثانية التي أزور فيها الرياض في عام واحد بعد زيارتها في مارس/آذار الماضي، وياله من فرق! فرق يتسع لأكثر مما حدث بين العام 1986، تاريخ زيارتي الأولى، والعام 2018: يرد في المشاهدات حضور المجتمع كله في الواقع، في ظاهرة تشير إلى نجاح كبير لحركة التنوير التي قادها ولي العهد محمد بن سلمان بنجاح كبير.
الرجل والمرأة والأسرة في الشارع والمركز التجاري والسوق الشعبي والمطعم، وردهة الفندق وحفل الترفيه والندوات والأمسيات الشعرية، وفي الأمسيات الشعرية المصاحبة للمهرجان كان عدد النساء يفوق عدد الرجال، والتركيز على هذا الجانب إنما للإشارة القوية الواثقة إلى أن السماح للمرأة بقيادة السيارة يتجاوز معناه المحدود المتداول نحو رمزية عالية حقيقتها عالية وعميقة: الضوء الأخضر للمرأة السعودية للمشاركة الحكومية والمجتمعية والإسهام في قيادة المجتمع وإيصاله إلى أجمل الضفاف.
السعودية كما رأيتها تقبل إقبالاً على المستقبل بروح وثّابة خلَّاقة هي انعكاس لروح ولي العهد الشاب المسلح بالإرادة والطموح، وبينهما الموهبة والوعي والمعرفة، وحبه لوطنه وشعبه وحب شعبه له.
والسعودية كما رأيتها دولة قوية آمنة مستقرة، ويُرى ذلك من مظاهر الحياة الطبيعية غير الضاغطة أكثر مما يُرى في المظاهر الأمنية التقليدية، وهذا إضافة إلى المضي أبعد في مأسسة المؤسسات، وإعادة الهيكلة الحكومية وفق المستجدات كل حين، مع إدخال المزيد من أصحاب الخبرة والدماء الشابة، وتغليب سيادة القانون، واختيار المسؤولين المنتمين إلى الأجيال الطالعة والمؤمنين برؤية الملك وولي العهد للمرحلة المقبلة، خصوصاً وهما يتبنيان مشروعاً نوعياً متكاملاً يقارن بأمثاله في العالمين، ما يعني أن توجه السعودية اليوم في الصناعة والاقتصاد والاستثمار هو توجه وطني وكوني في الوقت نفسه، يزيد من إمكاناته واحتمالات نجاحه استناده إلى الخطط والاستراتيجيات الموزعة على الزمن بدقة، تحت طائلة المراقبة والمساءلة.
يستطيع زائر السعودية، إضافة إلى ذلك كله، ملاحظة أن ورشة عمل نشطة تشغل الناس وتملأ عليهم حياتهم، وقد أحسنت القيادة استثمار الموارد البشرية المؤهلة (كم عدد السعوديين حاملي الماجستير والدكتوراه؟)، كما أن برامج التعليم والتعليم العالي تنبئ بمستقبل يليق بالمملكة، فكرة ومشروعاً، وعاصمة للقرار العربي، وللعالم الإسلامي بأكمله.
وقد كان في كلمة خادم الحرمين وهو يستقبل ضيوف الجنادرية إشارات إلى ذلك، وإن كان ما يحدث في السعودية، لهذه الجهة، ولجهة علاقات المملكة في منطقتها ومحيطها العربي والعالم كدولة تتقدم محور خير يمثل النقيض لمحور الشر وأوّله طهران وأنقرة والدوحة والميليشيات التابعة يعرفه اليوم المواطن العربي العادي، شريطة تحليه بحسن القراءة والإنصاف.
وفي السعودية اليوم حماسة ملحوظة لرؤية التنوير والتغيير، مع الإقرار بأن مستجدات السعودية تتفق تماماً مع صحيح الدين، وهو ما يعيد الأمور إلى طبيعتها، بعيداً عن مساعٍ سابقة أخطأت في التفسير، ونزعت إلى التأويل الذي أعاد إنتاج آراء فئة قليلة من الفقهاء، كما لو أنها أصل الإسلام، وكما كانت السعودية منذ أول التأسيس، فهي محل مكة المكرمة والمدينة المنورة وضيوف الرحمن من أربعة أطراف الأرض، وحامية وراعية المقدسات، والمدافعة عن الإسلام وتسامح الإسلام.
تلك هي السعودية كما رأيتها: حداثة لا تتخلى عن الإرث، ومعاصرة تعانق الأصالة مطلع كل شمس، وتجديد يتفق مع محبة وسماحة وحضارة الإسلام. هذه هي السعودية كما عرفتها: وطن للسياسة والاقتصاد يؤكد قيمة الثقافة، ويحرص على إقامة مهرجان كبير مثل مهرجان الجنادرية في دورته الثالثة والثلاثين، بحضور الملك والأمراء والوزراء وقطاعات عريضة من المجتمع، مشتملة خصوصاً على أعداد متزايدة من النساء والشباب.
السعودية كما رأيتها وليس من سمع كمن رأى تلبية لمن أراد أن يشفي غليله بالحقيقة، وجواباً على كل التي أراد لها البعض أن تدمر بدل أن تعمر.
السعودية التي رأيتها أمثولة تنمية وبناء. السعودية التي رأيتها أقوى من كل معاول الهدم. السعودية التي رأيتها أعز وأكرم وأشرف. السعودية التي رأيتها تعرفها تماماً جوقة السوء، لكنها تكابر وتضع على عينها غشاوة من الحقد والأحكام المسبقة.
..... والقافلة تسير.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"