مركز الأبحاث والدراسات في القيمدراسات عامة

الجماعات الافتراضية ومسألة الهوية (الجزء الثاني)

الباحث: عبد الخالق بدري

 

5-  الواقع الافتراضي وتحدي الهوية

 

     تعتبر اليوم ظاهرة “الوسائط الإعلامية” من أكثر الظواهر الاجتماعية التي استقطبت الملايين من الأشخاص، بشتى شرائحهم وانتماءاتهم، وفرضت العديد من التحديات التي تؤثر على القيم والثقافة والهوية و أنظمة التربية بالمجتمع، وخصوصا مع التخلف التقني الذي يعرفه البلد لدى فئة عريضة، فمن خلال تفحص الواقع التقني للوسائط، التي ظهرت نتيجة التطبيقات العلمية في مجال الإعلام عبر شبكة الاتصال المعلوماتية (الأنترنيت). سنجد عالما افتراضيا يسهل التحكم فيه عن بعد، مما يجعل منه عالما واقعيا، و لكن لا واقعية العالم الذي اعتاد الإنسان التعامل معه منذ وجد، بل واقعية جديدة يسميها الفيلسوف محمد عابد الجابري: اعتبارية أو افتراضية 1

    بمعنى أن العولمة في جانبها المعلوماتي تتجاوز الحدود القومية، وتتعامل مع فضاء جغرافي لا يعترف بالحدود، ربما تخلق حدودا جديدة داخل الدولة الواحدة تفصل بين المستخدم للانترنت (تملك مدونة، أو تملك صفحة في شبكة افتراضية) و بين غير المستخدم للانترنت. و بالتالي ستخلق أزمة في بنية المجتمع، و شبكاته الترابطية  وهويته الجماعية، وتقضي على خصوصيات بعض الشعوب.

   “الجماعات الافتراضية” موضوع هذا البحث، سيتبين لنا أن اكتشافها واستعمالها للمرة الأولى وانتشارها بكثافة كان في الدول الغربية، وبالضبط في الولايات المتحدة الأمريكية  التي تتميز بتعدد ثقافي و تعدد هوياتي، كما أن المجتمع الأمريكي تغيب فيه الروابط الاجتماعية (مفكك اجتماعيا)، مجتمع الفر دانية، مفكك اللحمة الاجتماعية، و فوق كل هذا فإن الولايات المتحدة الأمريكية هي مركز النظام العالمي الجديد، وموطن “العولمة” (الرأسمال و الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات)؛ و أثناء تصدير التقنيات التكنولوجية الرقمية الحديثة للدول المتخلفة تصدر معها نموذج الحياة الأمريكية (للباس، الذوق، التفكير، قيم الاستهلاك، الثقافة، السرعة المفرطة، تجريد الإنسان من الوجود الواقعي إلى الوجود الاعتباري…)، وبالتالي ستخلق أزمة للمجتمعات المتخلفة صناعيا، خاصة المجتمعات التقليدية والمحافظة التي تتعارض ثقافتها الأصلية و الأعراف والمعايير مع الثقافة الأمريكية، فظهور الفايسبوك نموذجا في المجتمع الأمريكي له ما يبرره اجتماعيا و ثقافيا و تقنيا، لأنه من جهة لا يتعارض من حيث المحتوى والمضمون مع المعايير الاجتماعية والأخلاقية التي تميز المجتمع الأمريكي، و من جهة أخرى لأن المجتمع الأمريكي متقدم صناعيا ويعتمد التكنولوجيا الرقمية في شتى مناحي الحياة، أما في مجتمع أهلي تقليدي كالمجتمع المغربي فسيطرح مشكل التعارض مع مؤسسة التنشئة الاجتماعية، و مؤسسة المجتمع المدني، والحركات الاجتماعية، والمعايير الأخلاقية  التي تعد فاعلا رئيسيا في رسم هوية الإنسان المغربي.

    هل سيؤدي هذا الوضع إلى القضاء على خصوصية و ثقافة المجتمع المغربي؟ أم أنها ستتعايش معها  دون أن تتعرض للاستلاب الثقافي و دون أن تفقد ثقافتها لهويتها الوطنية؟

   هل يمكن اعتبار الهوية حاكم و ضابط للاجتماع الإنساني في العالم الافتراضي كما في العالم الواقعي؟ في العالم الواقعي (جماعة نسائية، شبابية، إسلامية، علمانية، يسارية…أما في العالم الافتراضي يمكن أن تكون جماعة افتراضية تضم كل هذه الهويات) فما هي إذن الهوية الجماعية لهذه الجماعة؟

   يثير هذا الموضوع تساؤلات كثيرة، وهو من المواضيع التي ما تزال يطور الاعتمال في حقل السوسيولوجيا، وبالتالي فإن الأسئلة التي يطرحها أكثر من ما يقدم من أجوبة، لذلك يحتاج منا إلى التوقف عند الأسئلة التي يثيرها لعلها تفتح لنا مغالقه، وإذا كان الإسراع إلى الإجابة قد يوقع في الزلل كما يقول المثل، فإن التريث عند الأسئلة و تأملها قد يتيح مجالا للتأمل.

أ_ الهوية تأصيل تاريخي

   بقدر ما يبدو مفهوم الهوية للوهلة الأولى أنه بسيط وواضح، بقدر ما أنه معقد وغامض وعصي على الإمساك، لذلك وجب علينا توضيح رؤيتنا ماذا نقصد بمفهوم الهوية، في إطار محدد يبين من ناحية وضع الهوية ضمن تعدد الهويات الفائضة، التي برزت تحت مسميات الهوية الدينية، الهوية الثقافية، الهوية القومية، الهوية المذهبية، الهوية العشائرية والطائفية، والتي أدت إلى مشكلات تتحدث عن ضياع الهوية 2 .

    ومن ناحية أخرى مدى قدرتنا على التقييم، و إمكانية التعويل على الهوية كضابط للفرد والمجتمع.

     يشير لفظ الهوية إلى عدة مجالات من التفكير منها الفلسفة و الميتافيزيقيا، ثم المنطق، و إلى العلوم النفسية و الاجتماعية. فمفهوم الهوية استعمل مصطلحا في المنطق و الفلسفة و في التصوف بالنسبة لتراثنا القديم، واستعملت في علم الاجتماع الحديث كما استعملت في الفلسفة الحديثة، وهنا نسجل ملاحظتين،3 الأولى تتجلى في أن فلاسفتنا القدماء اختاروا في التعبير عن اللفظ اللاتيني EDENTITAS  لفظ الهوية، صاغوه من لفظ الضمير (هو) بزيادة ياء النسب و تاء المصدرية، وهذا الضمير يدل على الغائب، و يستعمل للربط بين الموضوع والمحمول في لغة المناطقة. فكأن الهوية المشتقة منه هي إثبات شيء غائب عن الحس، شاخص بمظاهره فقط، و هكذا تظل الهوية مجرد وجود اعتباري تشخصه آثار وأحداث وأفعال.

    أما الملاحظة الثانية فهي أن القول بالهوية يتضمن بالنسبة للفلسفات القديمة القول بأن الوجود، يقوم على ثنائية الجواهر و الأعراض، و على أن الجواهر ثابتة و أن الأعراض متغيرة و مختلفة، و أن هذا الاختلاف لا يغير من هوية الذات شيئا، و إننا عندما نثبت الهوية نعني بها الجوهر الموجود بذاته من غير الاعتبار للأعراض التي تلابسه، إلا أن هذه الفلسفة تعرضت للتشكيك والنقد ظهرت تيارات فلسفية تختلف معها و تعارض هذا الطرح، و هذا ما سنفصل فيه لاحقا في هذا البحث.

   عموما إن السؤال عن معنى الهوية، أو هوية الهوية، قديم جدا قدم التمايز بين بني البشر أفرادا كانوا أو جماعات، ولا يكاد يختلف اثنان عاقلان على حتمية وجود هذا التمايز والتباين أو الاختلاف ورسوخه، ولا على أهمية التمسك بهوية مميزة على صعيد الشخصية والوطنية و القومية. لكن السؤال المطروح الذي يقدم نفسه بجدية على أنه سؤال رئيسي و مفصلي هو: هل الهوية ومكوناتها لأي أمة من الأمم تنتمي إلى ما هو جوهري أو أصلي أو ثابت ونهائي تام بشكل مطلق أم أنها مما يشمله التغيير والتعديل والتحوير، و الاكتساب تأثرا وتأثيرا بالغير ومعطيات المحيط سواء كان سياسيا أو ثقافيا أو دينيا أو تكنولوجيا…الخ؟

    إن الحديث عن الهوية ومفهومها ليس بأقل قلق ولا إشكالية عن الحديث عن تجليات العولمة في بعدها التقني والتكنولوجي. فالهوية، كما هو معروف، تعد من المفاهيم التي تضخمت بشأنها المقاربات والدراسات و الأبحاث، وهو أمر، يعود إلى تناثر هذا المفهوم على ضفاف تخصصات عدة داخل حقل العلوم الإنسانية من الأنتروبولوجي إلى السوسيولوجي، ومن السيكولوجي إلى العلوم السياسية، الشيء الذي يجعل كل محاولة لحصره ضربا من المجازفة الفكرية المفتوحة على كافة الاحتمالات4 عموما إن الحديث اليوم عن الهوية ومفهومها قد أصبح من الموضوعات التي احتدم فيها النقاش و الجدل، وما يزال خصوصا في ظل المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية المختلفة والمتسارعة، التي يعيشها كل مجتمع ذي تراث و هوية حضارية يسعى إلى الحفاظ على ذاتيته و أصالته وتقاليده وعاداته وثقافته الوطنية الحالة المغربية نموذجا-.

     فمع انبلاج فجر الألفية الثالثة، تباغت على مجتمعنا المغربي ثقافة معلوماتية واتصالية بقدراتها الاقتصادية والتكنولوجية الجبارة، تسعى إلى تعميم نمط كوني من الثقافات والجماعات الاجتماعية في البلدان النامية، فمن وراء الكم الهائل من المواقع على شبكة الأنترنيت، والكم الصاخب من المعلومات والصور والسلع الثقافية، والآليات التقنية الحديثة، يتحور كل ما هو اجتماعي ثقافي ضمن إطاره المحلي الخاص، فيندرج قسرا ضمن نسقية زمنية كونية متسارعة. فتفرض تحديات شتى على كل كيان حضاري رسخته الحقب الزمنية الطويلة للحضارة، لكن دون أن تحدث الآثار نفسها كما في بيئتها الأصلية: المجتمعات ما بعد الصناعية حسب فرناند بروديل5. حيث تبقى تأثيراتها مشروطة بخصوصيات السياقات التاريخية المتنزلة فيها، ومشروطة أيضا بتزايد الهوة الفاصلة بين الشمال والجنوب على جميع الأصعدة.

ب_ إشكالية الهوية

    إن مشكل الهوية أو أزمة الهوية (لا نقصد أزمة القيم) ليست وليدة اليوم، وإنما مرتبطة بعمليات الانفتاح الثقافي حتى قبل ظهور وسائل الإعلام والاتصال، حين كانت الدول والأمم في الماضي تنفتح على ثقافة أمة أخرى فتنهل منها ما يعجبها أو العكس، ويتحقق ذلك بفعل عملية التأثير والتأثر. أما في وقتنا المعاصر فازداد مشكل الهوية أكثر حدة، ليس فقط لأن مبتكروا وسائل الإعلام والاتصال يصدرون ثقافتهم لشعوب الدول النامية. بمعنى أن العلاقة بين الهوية المحلية و هوية العولمة ليست علاقة وحيدة الاتجاه، وإنما أصبحت الهوية تركيب بين معطيات العالم الواقعي والعالم الافتراضي، الذي يشكل جزءا كبيرا من العالم الواقعي، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى انقسام على صعيد الهوية6. (في العالم الواقعي لكل جماعة هوية اجتماعية أما في العالم الافتراضي تعدد الهويات داخل الجماعة الواحدة “حركة 20 فبراير التي تضم نجيب شوقي زعيم “حركة مالي” للافطار في رمضان،  و سعيد بن جبلي الذي ينتمي لجماعة أصولية على سبيل المثال)، إنما راكمتها التحولات الكبرى التي شهدها العالم أواخر القرن العشرين متمثلة بالأساس في العولمة  باعتبارها “ثقافة” اكتسحت العالم بالوسائل التكنولوجية الحديثة (هاتف نقال، ألعاب الفيديو، الحاسوب، انتشار الانترنت، تطور خدمات الاتصال) التقنية الجديدة تأتي بمحتوى ثقافي للدول المصنعة “أمريكا” و بالتالي تنتشر معها الثقافة ونمط الحياة الأمريكية، و إذا لاحظنا لباس الشباب و ذوق الشباب و نوع الموسيقى التي يستمعون إليها،  تمثلاتهم و قيمهم، سنجد أنها متأثرة بالنمط الأمريكي، لكنها لا تستجيب له كليا، و في نفس الوقت غير مستعدة أن تتخلى عن ثقافتها الأصلية، و هذا الأمر يضع الشباب في “أزمة حسم الخيارات”، و التالي أزمة في تحديد الهوية، بين الهوية الأصلية أو الهوية الوافدة الحاملة للحرية المطلقة (التفكير، الاعتقاد، السلوك، التعبير)، والقائمة على الاستهلاك، وتوحيد الذوق و نمط العيش.

ج_  الهوية فلسفيا 

   الهوية هي الذاتية و الخصوصية و هي جماع القيم و المثل و المبادئ التي تشكل الأساس الراسخ للشخصية الفردية أو الجماعية، و هوية الفرد عقيدته و لغته و ثقافته و حضارته وتاريخه، الهوية هي ما به يكون الشيء هو هو مما يحقق ذاته و يحدد تميزه7، فإنها بالنسبة لأي مجتمع وعاء ضميره و مشاعره و خلاصة فكره و ذهنيته، و مجموع القيم و المقومات التي تكيف وعيه و إرادته و تطبع كيانه و شخصيته، إن أي هوية من حيث هي مجموع القيم و المقومات التي تكيف وعيه و إرادته و تطيع كيانه و شخصيته، و إن الهوية من حيث هي مجموعة ظواهر و ملامح ترتبط بمجتمع ما، و على الرغم من رسوخها فإنها تتعرض لمختلف عوامل التغير و التبدل، و نود بتناولنا موضوع الهوية أن نبرز أي هوية من حيث هي مجموع القيم والمقومات التي ترتبط بمجتمع ما، وعلى الرغم من رسوخها تتعرض لعوامل التغير أو هي بالأحرى تتفاعل معها في نطاق بعض المظاهر القابلة للتطور و التجديد دونما مس بما فيها من ثوابت مهما يصل أثر تلك العوامل و مهما يصل هذا الأثر إلى درجة التحدي، الذي لا شك أن الهوية تكون قادرة على مواجهته و الصمود له، إن لم تكن مضطربة أو في حالة مرضية، وهو وضع يعكسه المنتمون إليها إن ضعفوا أو انهاروا و فتر تمسكهم بها، و استسلموا عاجزين عن المواجهة مع الأمر ينبغي أن يكون على خلاف ذلك، إذ يكون استحضار الهوية و الالتجاء إليها و التشبث بها خير ما يتسلح به في هذه المواجهة، فالإنسان منذ أن وجد في الحياة و بدأ يشعر بوجوده من خلال كيان مقتدر، أخذ يبحث عن مقومات هذا الكيان لتقويتها و إبرازها و التمييز بها عن غيره. و من هنا كان الشعور بالهوية هو شعور رافق الناس أفرادا و جماعات على امتداد العصور، و لعله اليوم أكثر إلحاحا عليهم وهم يعيشون في عالم طغت عليه النزاعات و الصراعات، و كثرت فيه واجهات الخصام، و تعددت فيه الحضارات و الثقافات و تفوق بعضها على بعض. و من ثم أدرك علماء الاجتماع أهمية الهوية، في التحصين من جهة، و في التواصل من جهة ثانية، و هو إدراك نابع حين يتعلق الأمر بالتحصين من الشعور بهجوم الآخر و محاولة الاستيلاء و الاستبداد.  

د_ الهوية سوسيولوجيا

    مفهوم الهوية في علم الاجتماع متعدد الجوانب، و يمكن مقاربته من عدة زوايا. فالهوية بشكل عام تتعلق بفهم الناس و تصورهم لأنفسهم، و لما يعتقدون أنه مهم في حياتهم. و يتشكل هذا الفهم انطلاقا من خصائص محددة تتخذ مرتبة الأولوية على غيرها من مصادر المعنى والدلالة و من مصادر الهوية هذه: الجنوسة، التوجه الجنسي، و الجنسية، المنطلقات الإثنية، الطبقة الاجتماعية8. ويتحدث علماء الاجتماع عن نوعين من الهوية هما الهوية الاجتماعية، و الهوية الذاتية أو (الهوية الشخصية). ويمكن التمييز بين التحليلين، غير أنهما مترابطان بشكل وثيق. و يمكن النظر إليهما من خلال علامات ومؤشرات على ماهية هذا الشخص أو ذاك. و في الوقت نفسه فإن هذه المؤشرات تحدد موضع الشخص بين أفراد آخرين يشاركونه الخصائص نفسها، ومن الأمثلة على الهوية الاجتماعية: الطالب، الأم، المحامي، الأسيوي، الكاثوليكي، المتزوج، الزنجي، وغيرها. فقد يكون المرء في الوقت نفسه أما، مهندسة مسلمة، و عضوة في المجلس البلدي، وتعدد الهويات يعكس أبعادا جديدة في حياة الناس9. وقد تكون التعددية في الهويات الاجتماعية مصدرا محتملا للصراع بين الناس، غير أن الأفراد في العادة ينظمون معاني حياتهم و تجاربهم، حول هوية محورية أساسية تتميز بالاستمرارية النسبية، عبر الزمان و المكان. و عليه فإن الهويات الاجتماعية تتضمن أبعادا جماعية، فهي تعطي مؤشرات على أن الأفراد “متشابهون” مثلهم مثل غيرهم من الناس. و الهويات المشتركة ترتكز على منظومة من الأهداف والقيم و التجارب المشتركة، تستطيع أن تشكل قاعدة مهمة للحركات الاجتماعية. كالحركة النسوية، الحركة الطلابية، نقابات العمال10، ولكن ماذا عن الحركات الاجتماعية الجديدة التي ظهرت في القرن الواحد و العشرين مع تطور تقنية التكنولوجيا في جانبها المعلوماتي القائم على الشبكة؟ و التي هي جزء من إشكالية هذا البحث، هل هي أيضا لها هوية مشتركة؟ وإذا كانت الهويات الإجتماعية دليلا على التشابه بين الأفراد، فإن الهوية الذاتية (أو الهوية الشخصية) تضع الحدود المميزة لنا بوصفنا أفرادا. و تشير الهوية الذاتية  إلى عملية التنمية الذاتية التي نرسم من خلالها ملامح متميزة عن أنفسنا و لعلاقة العالم من حولنا، و تستمد فكرة الهوية الذاتية كثيرا من عناصرها من الفرد والعالم الخارجي في رسم و إعادة تشكيل تصوره/تصورها عن نفسه/نفسها. كما يسهم بين الذات و المجتمع في ربط العالمين الشخصي و الفردي بعضهما ببعض. فيما تعمل البيئة الثقافية و الاجتماعية عملها في تشكيل الهوية الذاتية، فإن العامل و الخيار الفرديين يقومان بدور مركزي مهم في هذا المجال11.

(راجع هنري جيم و جون جيم موسوعة ويكبيديا )

 

6ـ التحولات التقنية المتسارعة وانعكاسها على الهوية 

    إن التحولات المتسارعة في مجال التكنولوجيا خلقت أزمة في الهوية، فكلما تزايدت السرعة في أي مجال كلما ازداد البحث عن الثابث في الهوية، ماذا نقصد بالتحول؟ و ما هو التحول أصلا؟ إذا اعتبرنا أن الفايسبوك معطى اجتماعي في بنية تقنية، فهو أحدث تغير على مستوى التفكير بعد انتقال التفاعل الاجتماعي من العقل التأملي إلى العقل التقني.

    إذا كانت الدولة روح الجماعات تجمع الفكرة العامة للجماعة و تحميها12، فهل بعد تحرير الفضاء العمومي سيحدث تحول في الهوية الجماعية؟. 

    يحيل مفهوم “التحول” إلى أن مجموعة من التغيرات الجذرية العميقة التي أحدثها انتشار الانترنت على مستوى المجتمع البشري وحياة الأفراد، والتي بشّر بها مجموعة علماء الاجتماع.

     لكن مفهوم التحول هنا، ليس دائما مفهوما إيجابيا؛ لأننا سوف نبحث في الجوانب السلبية التي أضفتها الشبكات الافتراضية على هوية الأفراد. و يحيلنا مفهوم التحول إلى انتقال الحياة البشرية من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات أو “مجتمع المعرفة” باعتباره الشكل المجتمعي الجديد الذي تنتظم في إطاره البشرية اقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا، والذي تحتل فيه المعلومات مكانة محورية باعتبارها الثروة الحقيقية التي يتوقف على سرعة الحصول عليها و معالجتها و استغلالها، تقدم مجتمع معين أو تخلفه، كما نسجل نقطة تحول أخرى حسب مجموعة من المفكرين وتتجلى في انتقال التفكير من العقل التأملي إلى العقل التقني13. كما أن ما يميز المجتمع الحديث هو انتشار التقنيات الحديثة للإعلام و الاتصال و سيطرتها على مختلف المجالات و الأنشطة الاجتماعية. و يتجلى التحول الذي خلفه الفضاء الافتراضي بصفة عامة هو أنه قدم لنا عالما مطابقا لعالم الواقع، لكنه غير محسوس يقوم على تقنيات الاتصال الحديثة، هذا العالم الجديد يضم جميع أنشطة عالمنا الواقعي المعتاد، ومميزاته هو أنه متحرر من المسافة الزمنية و المكانية، و أنه يتم التحكم فيه عن بعد، أما هوية الأشياء التي يحتويها و الأنشطة التي تتم فيه فتتحدد بالوصف اعتباري:ٍVirtuel، حسب محمد عابد الجابري، وليس بافتراضي أو وهمي، كما يعنيه المعنى الأصلي للكلمة، لأن الأمر هنا لا يتعلق  بمجرد وجود تصوري من صنع الخيال أو الوهم، بل بوجود واقعي: مشاهد عبر الصورة والكلمة و جميع الرموز، ولكنه مع ذلك “اعتباري” بمعنى أن الاتصال فيه يتم عن بعد وعبر رموز.    

   يمكن القول في البداية أن أي ظاهرة حديثة لا تأتي مباغتة و بدون مقدمات و ممهدات، و إنما تأتي كتتويج لمسلسل طويل هو مسلسل التدويل، و إذا أردنا رصد مسلسل التدويل، و إذا أردنا رصد مسلسل التدويل لظاهرة الشبكات الاجتماعية الافتراضية سيتبين لنا أنها امتداد وتطوير نوعي لتقنية الاتصال و الأنترنيت. هذه التقنية التي تعد اليوم ذروة ما ابتكره الانسان اليوم في مجال التكنواوجيا الرقمية. مع موازتها تعرف الحياة الإنسانية تحولات جوهرية للأفكار الأساسية للأفراد في سياق حركة التطور و التقدم العلمي و التقني. لأن انتشار الفكر التقني أدى إلى خلخلة ثوابث الجماعات البشرية14. لأن التقنية الحديثة وفرت للإنسان حرية لا محدودة جعلته ينصهر كليا في فلكها، حيث يلاحظ العديد من الفلاسفة و علماء الاجتماع أن هناك ارتباطا وثيقا بين تطور التقنية و بين الأهمية المتنامية التي حظي بها المحسوس والجسد والغرائز الطبيعية للإنسان، وهي كلها أصبحت مع هرمان جاكوبي. جوهر الفردية14.


  •      :مظاهر تحول الهوية

    إن من أبرز مظاهر التحول الهوياتي هو التجرد من الخصوصية15. ثم أن الهوية تتجرد من مركزيتها في إحكام سلوك و أفعال الأفراد و الجماعات، و إلى جانب هذا هناك مؤشرات أخرى تدل على تغير أو تحول في الهوية نكر منها ما يلي:

– فك الارتباط بالوطن

– فك الارتباط بالرموز القومية ( الذاكرة المشتركة)

– فك الارتباط بالرموز الدينية و التاريخية

– تغير اللغة المستعملة في التواصل و الإشارة و التحية و الرموز

      إضافة إلى كل ما سبق فهناك تحول آخر مرتبط بإقبال الكثيف على المواقع الاجتماعية على شبكة الأنترنيت، و هو العلاقات الاجتماعية الافتراضية وانعكاساتها السلبية على العلاقات الاجتماعية التقليدية، و الملاحظ أن هذه العلاقات الاجتماعية تنسج إراديا عكس العلاقات التقليدية التي يفرضها الواقع بحكم القرابة العائلية أو علاقات العمل أو الدراسة، فالشبكات الافتراضية تمكن الأفراد من الدخول في علاقات مع من يريدون متى يريدون وكيف يريدون. ويعتبر هذا التحول تحوّلا سوسيولوجيا جوهريا أدخله الأنترنيت على العلاقات الاجتماعية التي أصبحت اختيارية وليست تراتبية. وعن انعكاسات هذا التحول على هوية الأفراد يرى بعض علماء النفس أن ظاهرة تمضية أعداد متزايدة من الناس أوقاتا مطوّلة أمام شاشة الكمبيوتر لقضاء “حياة أخرى” تحت هوية غير هويتهم المعتادة و ذلك سواء عند المشاركة في فضاءات الدردشة كما هو الحال في “البال تولك” أو “السكيب”. أو في فضاءات افتراضية مفتوحة ك”الفايسبوك” و “تويتر” و “مايسبيس”، فيقوم بتقمص شخصية مغايرة لشخصياتهم المعتادة، أو أثناء التواصل عبر هذه الوسائط الاتصالية الحديثة فيتحقق التأثير والتأثر في أحاسيس و علاقات و هوية الشخص عندما يقضي ساعات طوال في الإبحار على الأنترنيت في عوالم افتراضية يلتقي فيها بطريقة تفاعلية مع أشخاص آخرين تحت هوية غير هويته.   

    ومن مظاهر التأثير الهوياتي التي لفتت أنظار كثير من الباحثين في موضوع العولمة هذا الانتشار السريع للثقافة الشعبية الأمريكية في مجالات الموسيقى والسينما والتلفزيون والأطعمة السريعة والملابس وغيرها، وبالأخص في أوساط الشباب.  ويفسر بول سالم ذلك بإرجاعه إلى عوامل عدة منها هيمنة شركات الإعلان الأمريكية على التسويق العالمي، وقوة شركات الإنتاج الفني واستغلالها لعصر ازدهار الأقمار الصناعية في ترويج مظاهر ثقافية نجحت بين الشباب الأمريكي، فتنقلها إلى الشرائح الشبابية في أنحاء العالم فيما يشبه “صناعة ثقافية خاصة بالشباب” تتوافر فيها كل عناصر الجذب والتشويق، وتشبع لديهم وهم مجاراة العصر والتشبه بالقرين الأمريكي. وإلى جانب الكسب العاجل من وراء هذا التسويق على المستوى العالمي، فإن الكسب الأهم يتمثل في أن شباب اليوم هم نخب المستقبل في بلادهم.

 المراجــــــــــــــع:

  1 .عابد الجابري، مجلة فكر ونقد العدد 22، العولمة وهاجس الهوية في الغرب، والعولمة والهوية…بين عالمين ص 12

 2. وجيه كوثراني، هويات فائضة..مواطنة منقوصة، دار الطليعة بيروت لبنان، ط 1 ، 2004

 3.  الهوية الثقافية للمغرب بين توابث الماضي و متغيرات الحاضر محمد الكتاني  مجلة فكر و نقد العدد 22   

 4.  محمد فاضل رضوان، نحن والعولمة: “مأزق مفهوم ومحنة هوية”، الموقع  الالكتروني لمؤسسة عبد المحسن القطان على الشبكة الدولية للمعلومات.

 5. عادل محمد رحومة، تنشئة الهويات الفردية عند الشباب عبر الفضاءات الاتصالية، مجلة إضافات، العدد 9، ص133

 6.  محمد عابد الجابري، العولمة ومسألة الهوية بين البحث العلمي والخذ.طاب الاديولوجي، مجلة فكر ونقد، عدد 22 ، ص. 13

 7.  نفس المرجع السابق ص 23

 8.   أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة الدكتور فايز الصباغ، المنظمة العربية للترجمة،ط 1 أكتوبر 2005

 9.   نفس المرجع السابق ص 92

 10. نفس المرجع السابق

 11. أنطوني غذنز، علم الاجتماع، ترجمة الدكتور فايز الصباغ، المنظمة العربية للترجمة، ط أكتوبر 2005

 12. باتريك سافيدان، الدولة والتعدد الثقافي، ترجمة المصطفى حسوني، دار توبقال للنشر والتوزيع، ط 1، 2009،ص 33.

 13. مارتن هيدجر وهابرماس

 14. حوار مع الفيلسوف داريوش شايغن حول الفضاء الافتراضي، مجلة الآوان الالكترونية

15. نفس المرجع

 


 

ذ. عبد الخالق بدري

باحث بمركز أجيال للتكوين والوقاية الاجتماعية بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق