You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

سلمان البدعيش: السويداء وأكبر فرقة موسيقية مدرسية في الوطن العربي

أكبر فرقة موسيقية مدرسية في الوطن العربي.. أسسها الشاب الدمشقي محمد كامل القدسي في السويداء عام 1951

 عرف جبل حوران أو ما عرف فيما بعد باسم جبل العرب أدوارا متعاقبة من الازدهار والتخلف، تبعا للظروف السياسية التي تعاقبت عليه . ففي القرون الميلادية الثلاثة الأولى، عرف الجبل فترة ازدهار لا تزال آثارها العمرانية التي تشهد على ذلك، ماثلة حتى الآن . وإن وجود هذه المسارح العظيمة في كل من بصرى وشهبا وقنوات، ومن تصميم المدرج الذي يتسع لآلاف المتفرجين كما في مسرح بصرى، والذي يسمح بسماع أدق الأصوات دون مكبرات للصوت، وأبواب الدخول والخروج التي تسمح بخروج 15000 شخصا خلال 8 دقائق دون أي تزاحم، وكذلك الأماكن التي كانت توضع فيها وسائل الإنارة، والمقاصير الخاصة بالمسئول وحاشيته، وتلك الهندسة الدقيقة والجميلة. كل ذلك يدلنا على أن أعمالا مسرحية وموسيقية عظيمة وراقية كانت تقدم على هذه المسارح، ثم مرت فترة زمنية، هجر الجبل سكانه، وخلت قراه، وخربت مزارعه، حتى أواخر القرن السابع عشر، إذ بدأت الحياة تدب فيه على أثر موجات النزوح التي قدمت إليه من جبال لبنان وفلسطين وحلب، وبخاصة بعد موقعة عين دارا المشهورة بين القيسيّة واليمنيّة في عهد الأمير حيدر بن موسى الشهابي حاكم لبنان عام 1711م .

إن الحياة القاسية والمليئة بالمآسي والمخاطر، وصراع البقاء، وصعوبة الحصول على لقمة العيش، والحروب المتلاحقة التي خاضها سكان الجبل، إن كان بالنسبة لتوفير الأمن للوصول إلى حياة آمنة مستقرة، أو بالنسبة لمقاومة الغازين والفاتحين والمستعمرين، جعلت الاهتمام بالأمور الفنية،يأخذ درجة متأخرة في سلم الأولويات، ولهذا جاء الاهتمام بالفن في وقت متأخر.

لقد حمل النازحون إلى الجبل فنون المناطق التي نزحوا منها، فجاءت معهم أغاني الميجنا والعتابا وأبو الزلف والهوّارة والمعنّى والقرّادي والمطلوع والمخمّس المردوف والزجل بأنواعه والدلعونا، والدبكة، والعزف على الشباية والمجوز ونقر الدفوف. وهذه فنون مشتركة بين سكان بلاد الشام(سوريا، لبنان، وفلسطين) وتأثروا بفنون البادية التي سكنوا على مشارفها، وخالطوا سكانها البدو، وأخذوا فنونهم وأجادوا فيها، إن كان من حيث نظم الشعر الشعبي أو ما يعرف بالنبطي بفروعه الخمسة وهي: الشروقي، الجوفية، الهجيني، الحداء، والسحجة، بألحانها المعروفة. أو العزف على الربابة الذي برع فيه عدد كبير من العازفين الذين يجيدون العزف ونظم الشعر النبطي.

وأوجد سكان الجبل فنونا خاصة بهم غير معروفة في بلاد الشام مثل: قصيدة الفن بأشكالها النظمية المختلفة وألحانها المتعددة، والهوليّة بنوعيها للرجال أو النساء، أو باشتراك الجنسين معاً في تأدية هذه الرقصة مع ترديد الأغاني الخاصة بها، وتسمى في هذه الحالة: حبل مودّع، وكذلك رقصة اللوحة، ورقصة وزفة العروس، وأغاني العرس التي ترددها النسوة بمصاحبة الدفوف.

لقد برع العديد في العزف على الربابة لدرجة مكنت أحدهم وهو توفيق اشتي أن يعزف عليها النشيد الوطني الفرنسي (المارسيلييز) عند زيارة الجنرال ديغول إلى الجبل في أربعينات القرن الماضي، كما عزف مع زميله حسن الخطيب النشيد السوري عندما رفع العلم السوري لأول مرة على الثكنة العسكرية في السويداء عام 1945 بعد الانقلاب على الفرنسيين والقبض على ضباطهم المتواجدين في حامية السويداء.

اقتصرت الموسيقا على استخدام الآلات الشعبية (الشبابة والمجوز والربابة والدفوف) إلى ما بعد الثورة السورية الكبرى عام1925 حيث بدأ الشعب يلتقط أنفاسه إلى أن وصل إلى درجة من الاستقرار النفسي والمادي النسبي بعد الاستقلال، ثم مرت حوادث الحرب الأهلية في الجبل عام 1948 ثم اضطرابات عام 1954 التي أودت بالحكم العسكري آنذاك، وكل هذه الأحداث أخرت في اهتمام الشعب بالموسيقا.

وفي بداية الخمسينات من القرن الماضي بدأ الشعب يتعرف على آلات موسيقية وفنون غنائية جديدة، بالاحتكاك وانتشار أغاني المذياع، وكانت أول آلة موسيقية استخدمت في الجبل (باستثناء البيانو الذي استخدمته أسمهان في بيت زوجها الأمير حسن الأطرش ) هي آلة العود. ثم كانت النقلة النوعية في مجال الموسيقا في المدرسة المتوسطة في السويداء على يد شاب دمشقي اسمه محمد كامل القدسي.

كانت المدرسة المتوسطة في السويداء ـ وهي المدرسة الوحيدة للمرحلة الإعدادية في المحافظة، ويلتحق بها الطلاب من كافة قرى المحافظة ـ وقد أحدثت عام 1946 واتخذت مقرا لها في بناء على شكل صندوق مغلق تحيط به غرف الصفوف من جهاته الأربع وتتوسطه باحة كبيرة، وقد كان هذا البناء ثكنة عسكرية فرنسية قبل الاستقلال، وقد وصل عدد الطلاب في هذه المدرسة إلى 1400 طالب ثم ألحق بها قسم للمرحلة الثانوية، وأصبح اسمها تجهيز السويداء.

في العام الدراسي 1949 ـ1950 قدم إلى هذه المدرسة الشاب محمد كامل القدسي مدرساً للموسيقا بعد تخرجه من معهد فؤاد الأول بالقاهرة عام 1949 مختصرا مدة الدراسة في ذلك المعهد من أرع سنوات إلى ثلاث. جاء يحمل العلم الأكاديمي ومزودا بهمة الشباب والنية الصادقة للعمل بإخلاص. ولا بد أنه اكتشف في السويداء مواهب ذات قيمة، في السنة الأولى اختار من المدرسة ثلاثة طلاب كانوا يغنون بمرافقة عوده لتصدح أصواتهم يوميا من خلال مكبر الصوت العائد للمدرسة، وذلك خلال الفرصة الكبيرة التي تتخلل الدروس ومدتها أربعون دقيقة. وفي السنة الثانية طلب من إدارة المدرسة إذا كان بالإمكان شراء بعض الآلات الموسيقية لتكوين فرقة موسيقية وكانت الإدارة متمثلة بالمدير الأستاذ محمود سعد الدين القادم من فلسطين إثر نكسة عام 1948 وكان هذا على درجة كبيرة من الرقي والحضارة بحيث استجاب لطلب الأستاذ القدسي وتم شراء الآلات التالية: كمان، عود، كيتار، أكورديون، ماندولين، وبعض الآلات الإيقاعية. وبدأ النشاط.

كان المدرسون من خارج المحافظة يسكنون في نفس أبنية المدرسة بحيث أعطيت غرفة لكل مدرسين اثنين. وكانت الدراسة اليومية تتم على مرحلتين: صباحية من الساعة 8 ـ 12 ومسائية من الثانية إلى الرابعة بعد الظهر، وكانت دراسة المرحلة الإعدادية تستغرق أربع سنوات، من الصف السادس حتى التاسع.

الأستاذ القدسي، ومن خلال دخوله إلى جميع الصفوف في المدرسة استطاع أن ينتقي عددا من الطلاب الذين اكتشف فيهم الموهبة الموسيقية ووزع عليهم الآلات الموسيقية حسبما ارتآه وقد شكلت الفرقة الموسيقية في عامها الأول من: سلمان البدعيش ـ كمان. مازن حمدان ـ ماندولين. فؤاد دويعرـ أكورديون. فؤاد النمر ـ كيتار. نجيب أبو عسلي، شقيق الفقيه، فوزي أبو عسلي، رياض أبو حمدان ـ عود. ونواف دويعر ـ رق. وبدأت التدريبات.

 

كان الطلاب الذين اختيروا لتكوين الفرقة يبقون في المدرسة بعد انتهاء الدوام المسائي، فيوزعهم أستاذهم على غرف التدريس بحيث يضع طالبا مع آلته في كل غرفة ويعطيه تمرينا للقوس أو الريشة، وعليه أن يستمر في أدائه لمدة ساعة ونصف. في هذه الأثناء يذهب الأستاذ وزملاؤه المدرسون إلى مركز المدينة للتسوق، لأن المدرسة تقع على الطرف الشرقي للمدينة ولا يوجد بعدها عمران، وعند عودتهم يجمع أعضاء الفرقة في غرفة واحدة ليؤدي كل طالب التمرين الذي أعطي له. كان الطلاب يقبلون على التدريب بنهم ومتعة، وكان الأستاذ يشاركهم بهذه المتعة لأنه بدأ يلمس نمو البذور التي زرعها في هذه المواهب المبشرة.

 وكنتيجة لهذه الجهود فقد استطاعت الفرقة أن تقدم عدة مقطوعات موسيقية في الحفل الختامي للسنة الدراسية اللذي قدمته المدرسة على مسرح سينما اللواء، منها مقطوعتان بسيطتان من تلحين الأستاذ القدسي هما: فالس الحرية، والغزالة الشرود.

وعندما حلت العطلة الصيفية أعطيت مفاتيح الغرفة التي تودع فيها الآلات الموسيقية لأحد أعضاء الفرقة كي يستمر التمرين على العزف خلال الصيف وكان البعض يذهب يوميا إلى المدرسة لممارسة هوايته لأن أحدا من الطلاب لم يكن يمتلك آلة موسيقية، ولا يمتلك المال لشراء آلة.

في العام الدراسي الثالث لوجوده في السويداء 1951 ـ 1952 بدأ التدريب مبكرا وتقدم للفرقة حوالي خمسين طالبا اختير منهم حوالي الثلاثين واشتريت آلات موسيقية جديدة وكان الأستاذ القدسي يقضي مع طلابه أكثر من ثلاث ساعات يوميا، وبرزت في الفرقة مواهب هامة كان لها أثرها في الحركة الموسيقية التي ازدهرت في محافظة السويداء وأدت إلى وصول المحافظة لما هي عليه الآن من تقدم وانتشار للموسيقا، حتى لا يكاد يخلو بيت من آلة موسيقية.

قبيل نهاية العام وصل عدد العازفين في الفرقة إلى ثمانية وعشرين عازفا واشتريت لهم الملابس الأنيقة الموحدة، وحضر وزير المعارف من دمشق لرعاية الحفل الختامي للمدرسة وأبدى إعجابه بالفرقة الموسيقية التي قال عنها: إنها فخر للسويداء ولسورية، وشكر الأستاذ القدسي على جهوده المبذولة التي أثمرت بإنشاء هذه الفرقة المدهشة، بعد أن عزف قطعة موسيقية غربية على الكمان بعنوان (العاصفة) أدهش بها الحاضرين لبراعته بالعزف وإجادته تصوير العاصفة في تلك القطعة الصعبة، حتى أن المستمع يكاد يشعر بالبرد عند سماعه لهذا الإبداع بالعزف لدرجة يعتقد فيها أن هناك عاصفة تهب عليه .

 

         في محافظة السويداء كانت تصدر جريدة اسمها جريدة الجبل لصاحبها الصحافي نجيب حرب وكانت توزع في السويداء والمحافظات السورية. نشرت هذه الجريدة ريبورتاجا عن هذه الفرقة توجته بمانشيت جاء فيه: أكبر فرقة موسيقية مدرسية في الوطن العربي. وبالفعل لم يكن في ذلك الحين أي مدرسة في أرجاء الوطن العربي فيها فرقة موسيقية بهذا الحجم. هذه الفرقة كانت ثمرة جهد وعرق وخبرة وتصميم وإرادة وإخلاص في العمل من مؤسسها، ساعده في ذلك وجود أرض خصبة غنية بالمواهب المتميزة ومجتمع منفتح على الحضارة يستوعب ويرحب بكل بادرة فنية وثقافية وعلمية وأدبية.

 

 الأستاذ محمد كامل القدسي أصبح فيما بعد مفتشا عاما للموسيقا في وزارة التربية، ثم مديرا لمديرية المسارح والموسيقا في وزارة الثقافة، ثم أعير إلى الجزائر كخبير في الموسيقا، إلى أن تغمده الله برحمته .

 تحية لروح المرحوم محمد كامل القدسي، وإلى بعض أعضاء الفرقة الذين تابعوا على طريق الموسيقا وكان لبعضهم الأثر في مسيرة وتقدم الحركة الموسيقية  في السويداء وبعضهم خرج بخبراته خارج سورية، وإلى من ساهم ونشط في نادي الفنون الجميلة الذي أسس عام 1959 في السويداء، ذلك النادي الذي حمل المشعل الذي أوقده الأستاذ القدسي. وإلى جمعية أصدقاء الموسيقا في السويداء التي حملت الراية التي رفعها النادي، وما زالت مستمرة في العطاء حتى الآن.

المصدر
بحث نشر في مجلة التراث الصادرة عن وزارة الثقافة



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى