هل يُراجع الغرب حساباته العربية؟

هل يُراجع الغرب حساباته العربية؟

07 نوفمبر 2019
+ الخط -
تترقّب دوائر صناعة القرار في الغرب ما سيؤول إليه الحراك الشعبي الذي تشهده بعض بلدان المنطقة، في سياق موجة ثانية من الثورات العربية، تبدو أكثر نضجا وقدرة على تجاوز عثرات الموجة الأولى التي بدأت متوهجة مع مطلع 2011 قبل أن تنحسر منتصف 2013. وكما هو الحال بالنسبة للموجة الأولى التي فاجأت هذه الدوائر، وأربكت حساباتها، تبدو هذه الموجة، أيضا، مفاجئة، وربما غير متوقعة، سواء من حيث سياقها أو دلالاتها المختلفة. 
لم تكن هذه الدوائر بعيدةً عن المنعرجات المأساوية لمعظم الثورات العربية، فقد ساهم انحيازها للأنظمة المستبدة وتواطؤها مع قوى الثورة المضادة في تشكيل بيئة إقليمية معادية للمد الديمقراطي، ذلك أن حزمة المصالح الغربية الكبرى في المنطقة لا تحتمل الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
لم تُبد هذه الدوائر اكتراثا بالصعوبات التي واجهت مخاض التحول الديمقراطي في مصر، ولم يكن يعنيها التوصل إلى توافق وطني، يستوعب مختلف القوى السياسية المصرية، ويقطع الطريق على العسكر ويحافظ على الحكم المدني، بقدر ما كان يعنيها تحقيق الاستقرار السياسي الذي يضمن مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني. وفي الوقت الذي كانت فيه تونس تستميت للحفاظ على ديمقراطيتها الفتية، بدا الغرب، خصوصا أوروبا، غير معني بتقديم الدعم الاقتصادي الكافي لها، ومساعدتها على تحمل جزءٍ من تكاليف التحول الديمقراطي أمام تنامي الطلب الاجتماعي المتزايد. أما في بلدان الربيع العربي الأخرى التي أُجهضت ثوراتُها، فقد كانت تطلعات شعوبها نحو الديمقراطية والحرية والكرامة خارج دائرة اهتمام صناع القرار في الغرب، في ظل الصراع على النفوذين، الإقليمي والدولي، لا سيما في سورية وليبيا.
مثّل هذا الوضع عائدا سياسيا بالنسبة للغرب، عمِل على توظيفه وجعله في خدمة مصالحه الكبرى في المنطقة، الأمر الذي فرض عليه الانحياز للاستبداد الجديد، والدولة العميقة، والحرس القديم والثورة المضادة. وشكلت عوامل الاقتصاد، ومكافحة الإرهاب والهجرة السرية، والنفط، وبيع السلاح، أبرز هاته المصالح. وجعل ذلك كله الغرب يتغاضى عما ترتكبه الأنظمة العربية من قمعٍ وانتهاك وتضييقٍ على الحريات، لقاء وفائها بالتزاماتها الدولية فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب العابر للحدود.
بيد أن اندلاع الحراك الشعبي في السودان والجزائر والعراق ولبنان أربك مجدّدا حسابات الدوائر الغربية، خصوصا أنه جاء يحمل رسالة دالّة إلى الداخل والخارج، مفادها بأن الفزّاعة السورية استنفدت صلاحيتها في المنطقة، ولم يعد في وسع المواطن العربي المقهور أن يقبل باستمرار أنظمة قائمة على زواج سفاح بين الاستبداد والفساد، فأوراقها تكاد تنفد بالكامل أمام تنامي الحس المدني والديمقراطي، وأضحى الركونُ إلى سردية المؤامرة الخارجية غير مقنع للشارع أمام تخلّف الإعلام الرسمي وفساده، وسقوط مؤسسات الوساطة والتأطير باختيارها الاصطفاف إلى جانب هذه الأنظمة.
مؤكّد أن انتقال عدوى الموجة الثانية للربيع العربي إلى بلدان أخرى سيمثّل تحديا استراتيجيا غير مسبوق بالنسبة للغرب، سواء تعلّق الأمر بالقوى الكبرى (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، الاتحاد الأوروبي...) أو بالمؤسسات المانحة التي تتحكّم في مساحات واسعة من الاقتصاديات العربية التي أنهكتها المديونية والفساد، فاستمراره في دعم النظام العربي سيكون مكلفا جدا، لأن رفض هذا النظام القيام بإصلاحات سياسية واجتماعية حقيقية يعني الوصول إلى أفق مسدود، مع ما يعنيه ذلك من احتمال نشوب حروبٍ ونزاعات أهلية، يترتب عنها، بالضرورة، تفكك النسيج المجتمعي والأهلي، وبالتالي تزايد أعداد اللاجئين الذين سيطرقون أبواب الغرب بحثا عن الأمن والاستقرار، وهو ما ستكون له تداعياتٌ لا حصر لها على المجتمعات الغربية.
تدل مؤشّرات كثيرة على أن عدوى ما استجد في السودان والجزائر ولبنان والعراق مرشحة للانتقال إلى بلدان عربية أخرى. واستمرار الغرب في رعاية النظام العربي، ضمن المعادلة التقليدية القائمة على دعم الاستبداد مقابل ضمان المصالح الغربية، سيخلط الأوراق أكثر في المنطقة، ويدفع بفاعلين وأجنداتٍ إلى واجهة الأحداث، في ظل بروز مصادر غير مألوفة للفعل السياسي، مع ما يعنيه ذلك من تهديدٍ حقيقي لهذه المصالح على المدى البعيد.