مسار عالمي طموح لاقتفاء أثر النبي إبراهيم

مبادرة من جامعة هارفارد الهدف منها توحيد أصحاب الديانات الثلاث

TT

عام 2004 انطلقت «مبادرة مسار الحج الإبراهيمي»، بدعم من مشروع التفاوض الدولي في كلية الحقوق في جامعة هارفارد، وبمشاركة عالمية لباحثين ورجال دين وأعمال واجتماع وخبراء في السياحية البيئية وآخرين. وتهدف المبادرة، بحسب مطلقيها «إلى افتتاح مسار يقطع على الأقدام يسلك مواقع ثقافية، دينية، سياحية، بتتبع خطى النبي إبراهيم عليه السلام منذ أكثر من أربعة آلاف عام».

والمسار الإبراهيمي هو الطريق الطويلة التي قطعها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، بعد أن سمع نداء ربه فانطلق عابرا عدة بلدان لينشر رسالته بين البشر. ويوجد إلى حد ما اتفاق، بين باحثي «الكتاب المقدس» على أن النبي إبراهيم انطلق في رحلته التاريخية من أور الكلدانية، جنوب نهر الفرات (في العراق حاليا)، وسار بمحاذاة النهر متجها إلى حاران (في تركيا)، ثم إلى سورية فأرض كنعان (فلسطين) ومنها إلى مصر، والعودة من مصر مرة أخرى إلى فلسطين. ولا يتفق بعض الباحثين المعاصرين في الدراسات الكتابية، مع خط سير المسار هذا، ويطرحون فرضيات أخرى، مما يجعل الأمر خلافيا وموضوع بحث لا يعتقد انه سينتهي قريبا.

ويصل المسار، الذي نتحدث عنه، بين مواقع تاريخية ودينية مهمة في قلب الشرق الأوسط، انطلاقا من آثار حران في تركيا (حيث يشير التقليد الديني إلى أن إبراهيم عليه السلام سمع نداء الله سبحانه وتعالى، لأول مرة) وصولا إلى قبره وقبور أبنائه وزوجاته في مدينة الخليل الفلسطينية. علما بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي، عمدت إلى تقسيم الحرم الإبراهيمي المقام على ما يعتقد أنها قبور العائلة الإبراهيمية بين المسلمين واليهود، وقتل العديد من الفلسطينيين في المكان منذ يونيو (حزيران) 1967، برصاص الجنود والمستوطنين، وارتكب مستوطن متطرف مجزرة داخل الحرم قبل 12 عاما.

وسيكون المسار بطول 1100 كلم، ويمر في سورية (بمحاذاة نهر الفرات وحلب ودمشق) والأردن وإسرائيل وفلسطين، حيث يصل الى القدس وينتهي في مقام إبراهيم عليه السلام في مدينة الخليل. ويلاحظ أن المسار يتجنب بعض أهم البلدان التي شملتها الرحلة الإبراهيمية المفترضة، منها العراق، وهذا ما جعل المشرفين على المشروع، يشيرون إلى انه «من الممكن في المستقبل افتتاح أجزاء أخرى من مسار الحج الإبراهيمي، تصل بين أور في جنوب العراق، وحاران ومصر والخليل».

وعلى طول هذا المسار، توجد مجموعة من المواقع التاريخية المعروفة عالميا، مثل الحرم القدسي الشريف الذي يضم المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، وكنيسة القيامة بالقدس، وكنيسة المهد بمدينة بيت لحم، والجامع الأموي في دمشق.

ولتقريب فكرة المسار الى اذهان الناس، يذكر المشرفون، مسارات أخرى مشابهة مثل «مسار الكامينو دي كومبوستيلا في إسبانيا، أو الرحلة من مكة إلى المدينة في المملكة العربية السعودية، أو مسار لويس وكلارك تريل في الولايات المتحدة الأميركية».

والمسار الإبراهيمي يتوقع أن يجذب «السياح من كافة أصقاع الكرة الأرضية، حيث أن النبي إبراهيم، هو أبو التوحيد والجد الروحي لليهود والمسيحيين والمسلمين، وبالتالي فهو عامل توحيد لما يزيد على ثلاثة مليارات شخص، والسير على خطاه، حلم لعدد كبير من الناس، من ضمنهم مارتن لوثر كينغ جونيور، والبابا الراحل يوحنا بولس الثاني».

ويتوقع أن يجذب المسار إضافة إلى أتباع الأديان التوحيدية الثلاثة، فئات أخرى من البشر، كالمغامرين والجغرافيين والكتاب والرحالة وغيرهم. وللمسافرين الخيار، بين قطع كامل المسار أو جزء منه، سواء على الأقدام أو بواسطة الجمال أو السيارات أو الحافلات أو بشكل مختلط بينها.

وللمسار أهداف أخرى، حسب ما يقول المنظمون، ثقافية وسياحية ودينية واقتصادية وبيئية وشبابية. فمثلا من الناحية الاقتصادية، يعتقد أن المسار يمكن أن يخلق آلاف فرص العمل الناتجة عن إقامة بنى تحتية من طرق وفنادق ومطاعم وخدمات سياحية، ومن ناحية اجتماعية قد يشجع تنمية التفاهم بين العالم الإسلامي والغرب، من خلال آلاف الزيارات المتعاقبة. وبإمكان المشروع أيضا أن يسهم في ترميم عدد كبير من المواقع المقدسة على طول المسار، وترويج التراث الثقافي للمنطقة لدعم السكان المحليين. وتعليميا، يريد المنظمون تشجيع التفاهم الديني والثقافي في من خلال اللقاءات الشخصية ووسائل، والعمل على حماية البيئية على طول المسار، مثل تنظيف جوانب نهر الفرات. هذا عدا تأمين عامل التقاء الشباب من كافة أرجاء العالم.

وبدأت جامعة هارفارد بدراسة لمسار الحج الإبراهيمي قبل نحو عامين، وتمكنت المبادرة من تشكيل شبكة تصفها بالواسعة من العلاقات في الشرق الأوسط والعالم، بما فيها لجان ضيافة محلية في سورية وتركيا، وتلقت دعما من حكومتي الأردن ولبنان، وتم تشكيل فريق أساسي للعمل. وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2005، عقد في حران اجتماع ضم باحثين وزعماء دينيين من تركيا وسورية وباكستان والبرازيل والولايات المتحدة لمناقشة خطة مسار الحج الإبراهيمي. وشكلت لجان داعمة في بعض الدولة التي سيمر فيها المسار، ويجري العمل على تشكيل لجان أخرى ستعمل بدعم من المكتب التنسيقي في جامعة هارفارد.

وحسب الخطة الموضوعة سيتم افتتاح ثلاثة مقاطع قصيرة من المسار في العام المقبل 200 بمشاركة محلية وإقليمية ودولية، وتستمر في نفس الوقت أعمال مسح طريق المسار جغرافيا. وفي خريف هذا العام، نظمت رحلة على طول المسار الإبراهيمي لوفد من الباحثين، وصلوا الى الأراضي الفلسطينية في منتصف شهر (نوفمبر) تشرين الثاني الجاري، والتقوا مع شخصيات فلسطينية للتباحث في المشروع. وافتتح اللقاء، مسؤول الوفد المبادر وعرف بنفسه على انه أميركي الجنسية، ولتقديم اكبر قدر من الطمأنينة لمضيفيه الفلسطينيين على ما يبدو، قدم اعتذارا عن سياسة الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط، وهو ما أشاع ارتياحا لدى الشخصيات الفلسطينية الحاضرة.

وقال يوري آدم، مدير تطوير المشروع، ان المبادرة تهدف إلى تعزيز الحوار بين الأديان السماوية الثلاثة، والترويج للتراث الثقافي في المنطقة، مشيرا إلى أن اقتفاء مسار النبي إبراهيم، سيعزز التفاهم والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويحقق العدالة ويصون الحقوق. وأشار آدم، مستبقا أي نقاش، إلى الطابع الثقافي والمعرفي للمسار الإبراهيمي، وان هذه المبادرة غير سياسية وغير منحازة وتؤكد على احترام كل الشعوب. إلا أن مداخلات الشخصيات الفلسطينية لم تخل من الأسئلة السياسية، والتي طالت الفيلم الترويجي عن المسار الذي عرضه آدم. الشيخ تيسير التميمي، قاضي القضاة في السلطة الفلسطينية، قال ان الإسلام يؤمن بالتعددية، وفكرة المسار مرحب بها لأنها ستقرب بين أتباع الديانات المختلفة. وبسرعة انتقل التميمي إلى ما اعتبرها المشكلة الحقيقية التي تواجه المشروع، وهي الاحتلال الإسرائيلي «الذي يفرض التضييقات على تنقل الفلسطينيين، ويرتكب المذابح والمجازر ويُهوِّد الأرض ويبني الجدار»، وأشار إلى الحرم الإبراهيمي وما يتعرض له من قبل الاحتلال، وأبدى اعتراضا على وصف الحرم القدسي في الفيلم الترويجي بأنه «جبل الهيكل».

ووافق الأرشمندريت عطا الله حنا، رجل الدين الأرثوذكسي المعروف، على ما قاله الشيخ التميمي عن التعددية لدى الشعب الفلسطيني، وأبدى ترحيبه بأية مبادرة تدعو للتسامح والتواصل، ولكنه أكد ان العقبة الرئيسة التي تواجه المسار الإبراهيمي هي الاحتلال الإسرائيلي الذي يسيطر على الأراضي والمقدسات الإسلامية والمسيحية.

وأبدى جودة مرقص، وزير السياحة والآثار الفلسطيني، اهتماما بالمسار، وقال إنه يمكن استغلال مبادرة المسار الإبراهيمي لتوصيل صوت الفلسطينيين ومعاناتهم إلى كافة أرجاء العالم، وأيضا يمكن أن يساهم المسار في إنعاش السياحة الفلسطينية المتدهورة.

أما الشيخ خالد طافش، النائب عن حركة حماس في المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي رحب بالمبادرة من حيث المبدأ، فأشار إلى أن الفلسطينيين الذين سينتهي المسار في أرضهم يعانون من السياسة الإسرائيلية التهويدية المدعومة أميركيا، وهو ما يجب أن يأخذه مشرفو المبادرة بعين الاعتبار، وطالب بأن يتخذ المبادرون موقفا واضحا تجاه السياسة الأميركية «اقتداء بسيدنا إبراهيم الذي وقف أمام الطاغوت».

وقال طافش الذي انتخب لعضوية المجلس التشريعي وهو في السجن وأطلق سراحه أخيرا بعد أن أمضى أربع سنوات خلف القضبان «يجب مساندة شعبنا من اجل تحقيق حريته، وهو أمر ضروري لنجاح المبادرة، وأعتقد أن العالم لن يجد الاستقرار وينعم بالسلام، ما دام الشعب الفلسطيني محروما من ذلك».

وأضاف «آمل ألا تأخذ هذه المبادرة جانبا واحدا، ربما يكون شكليا، وهو السير على خطى سيدنا إبراهيم على هذه الأرض، بل يجب أن تحمل رسالة لمواجهة الظلم ومواجهة السياسة الأميركية التي استخدمت مؤخرا حق النقض (الفيتو) لمنع إدانة مجزرة بيت حانون».

وتحدث آخرون مطالبين بتوضيحات من المبادرين حول الجهات الممولة، ودور الإسرائيليين في المسار، وأمور أخرى، مثل استثناء العراق من المسار.

ورد آدم بالقول إن المسار يعتمد على التبرعات، وان كثيرا من الناس، من دول مختلفة، يقفون خلف المبادرة، والأوضاع السياسية في العراق الآن هي السبب في استبعاده، وان دور إسرائيل مثل أي دولة أخرى يمر بها المسار. وعقب على ما قاله النائب طافش حول الدرس المستفاد من مواجهة النبي إبراهيم للطاغوت، بأنه «درس مهم يمكن فعلا الاقتداء به»، وقال «مهمتنا هي خدمتكم ومساعدة الشعب الفلسطيني، ولهذا جئنا إلى هنا لنتعاون معا من اجل إنجاز المشروع».