يوميات وأهم تطورات الأسبوع الثاني لطوفان الأقصى

(14-20 أكتوبر 2023)

  • استمرار عملية تخريب غزة: من عشوائية الانتقام إلى تمهيد أرض المعركة.
  • الطواف حول النار: دوامة خطابات وحراكات سياسية ومدنية عبر المنطقة والعالم.
  • حديث الحرب البرية بين جبهات متضاربة وأهداف غير محددة.

في الأسبوع الثاني من الحرب على غزة ردًّا على طوفان الأقصى، يواصل العدو الصهيوني عمليته العسكرية التي يمكن وصفها بحرب إبادة غزة، وتخريبها شعبًّا وبنيه؛ انتقامًا لهزيمته غير المسبوقة، وتمهيدًا للحرب البرية التي ينذر بها من الأسبوع الأول. يصاحب ذلك خطاب عسكري وسياسي متعدد المسارات والأهداف، وتتزايد فيه القضايا والتحديات التي تكشف عن حالة العدو وأزمته وجزء متنام من استراتيجيته. ويتجلى ذلك في الجلجة السائدة حول خيار الحرب البرية التي يراها قادة العدو –وحلفاؤه- الوسيلة الضرورية لتحقيق هدف (القضاء على حماس) كما يلح خطابهم، في الوقت الذي تتردد خطوط تركيز العدو بين جبهات: غزة، الشمال (الحدود اللبنانية)، الداخل الفلسطيني، الداخل الإسرائيلي، نذر الحرب الإقليمية –العالمية، ويزداد الأمر تعقيدًا بالحديث عن الأسرى والمحتجزين لدى فصائل المقاومة في غزة، والشد والجذب بين الخطاب الداخلي والخارجي، وأداء حركة حماس النوعي في هذا الملف، وفي هذا الأسبوع وأمام ضغط سؤال المستقبل بدأت تظهر أو تُسرَّب نماذج من الخطط التي يفكر فيها العدو لتأطير عمليته العسكرية الراهنة وتلك البرية المنتظرة بأهداف وترتيبات عسكرية وسياسية مستقبلية، فكيف سار هذا الأسبوع؟

أولاً- استمرار عملية تخريب غزة: من عشوائية الانتقام إلى تمهيد أرض المعركة

واصل العدو الصهيوني عمليات القصف الجوي الكثيرة والكثيفة على قطاع غزة؛ ليرتفع عدد الشهداء من نحو 1850 في نهاية الأسبوع الأول إلى 4100 شهيد في نهاية الأسبوع الثاني، وليتضاعف حجم التدمير للمباني السكنية والمنشأت العامة؛ بطريقة أهم سماتها الكثافة والسرعة وكأن العدو يسابق الزمن لتحقيق أكبر عدد من القتلى والسائر في صفوف شعب غزة، ويعتمد ذلك بالأخص على القصف الجوي، وتستعمل فيه ذخيرة متنوعة.

وبموجب غطاء الدعم والمساعدات الأمريكية غير المسبوقة، انفرجت دائرة القصف الإسرائيلى فى القطاع المأزوم؛ فبموجب تقرير نشرته صحيفة «واشنطن بوست»، أسقط سلاح الجو الإسرائيلى 6 آلاف قنبلة على القطاع خلال الـ48 ساعة الأولى من العدوان؛ وهى الكمية التى تضاهي عدد القنابل التى ألقاها الجيش الأمريكى على المدن الأفغانية خلال (عام كامل)، ونفس العدد المستخدم فى معارك واشنطن ضد «داعش» خلال (5) سنوات على أكثر من جبهة. الأكثر من ذلك هو إصدار بنيامين نتنياهو قرارًا خلال الساعات الأولى من العدوان بتفعيل ما يُعرف بـ«المرسوم 8»؛ فإلى جانب قرار الحرب الأحادي، الذى اتخذه نتنياهو دون تشاور مع أعضاء حكومته، ينص المرسوم على استدعاء الإسرائيليين المحسوبين على قوة الاحتياط فى مختلف دول العالم، والانضمام خلال ساعات من وصول الإشعار على الهواتف أو البريد الإليكترونى إلى صفوف جيش الاحتلال.

وبتمويل مؤسسات اقتصادية أمريكية سيَّرت شركة «إيل عال» الإسرائيلية رحلات جوية مجانية لنقل الإسرائيليين المستهدفين فى الخارج. المثير أن تفعيل قرار تسيير الرحلات الجوية الإسرائيلية لم يتفادَ يوم السبت، وهو ما يخالف التعاليم اليهودية، التى تحرِّم هذا الإجراء فى يوم السبت؛ إلا أن نتنياهو والأجهزة المسئولة عن إدارة الحرب، سواء كانت الحالية فى قطاع غزة، أو المرتقبة حال تحولها إلى حرب إقليمية، رفضوا الانتظار حفاظًا على عنصر الوقت. الأكثر إثارة أن إسرائيل لم تلجأ لاستدعاء قوات الاحتياط فى الخارج عبر تفعيل «المرسوم 8» منذ العدوان الإسرائيلى على لبنان عام 1982، وهو ما يؤشر إلى اتساع دائرة المواجهة، وأن غزة ما هى إلا خطوة للانفتاح على خطوات أوسع إقليميًا[1].

أين الإنجاز العسكري؟

خلال هذا الأسبوع كسابقة لم يرد في خطاب العدو ما حجم الإنجازات أو الأهداف العسكرية التي يحققه ضد حركة حماس أو فصائل المقاومة في غزة، يكتفي الخطاب العسكري للعدو بإيراد عدد الأهداف التي ضربها لحماس دون أن يحدد ما هي؛ ولا نوعيتها. وفي الوقت نفسه لا تعلق قوات المقاومة عن إصابات محددة في بنتيتها أو قتلى أو جرحى في صفوفها، اللهم إلا الإعلان عن ارتقاء عدد من الشهداء بدءًا من قائد لواء الوسطى (محافظات وسط القطاع) وعضو المجلس العسكري العام للقسام أيمن نوفل الذي قتل إثر قصف كثيف لمخيم البرمج وسط القطاع الثلاثاء 17 أكتوبر، وفي اليوم نفسه اغتيل رئيس القضاء الحركي لحماس تيسير إبراهيم ومعه الداعية الدكتور وائل الزرد. وفي الخميس 19 أكتوبر اغتالت إسرائيل عبر القصف الجوي قائد قوات الأمن الوطني التابعة لحماس في غزة / اللوء جهاد محيسن (مع أفراد عائلته في منزلهم)[2]. وفي اليوم نفسه اغتالت الغارات النائبة جميلة الشنطي نائب في المجلس التشريعي وعضو المكتب السياسي بحركة حماس. وفي السبت 21 أكتوبر وعبر عملية مشتركة بين الجيش والشاباك اغتال العدو أسامة المزيني رئيس مجلس شورى حماس، ومعه طلال الهندي اقائد في كتائب القسام.

ومع هذا فقد ظل القصف الكثيف المتصل مصبوبًا على الشعب ومساكنه ومخيماته ومرافقة العامة، وليس موجهًا توجيهًا محددًا تجاه القوى المقاتلة في غزة، حتى كان استهداف المستشفات واحدة من أهم خصائص الأسبوع الثاني من الحرب وجاء الثلاثاء 17 أكتوبر ليشهد واحدة من أهم نماذج كوارث هذه الحرب بقصف المستشفى الأهلي العربي (المعمداني)، وسقوط أكثر من 500 شخص ما بين مصاب وقتيل، ليليها قصف مبنى ملحق بالكنيسة الأثوذكسية الرومية (واحدة من أقدم كنائس العالم)، واستمرار تهديد المستشفات وإنذارها بالقصف والقصف الفعلي لدوائرها المحيطة بها ومطالبة إدارتها بإخلائها والتوجه إلى جنوب القطاع (مجمع الشفاء- مستشفى كمال عدوان الكويتي / مستشفى القدس، المستشفى الأندونيسي وغيرها…).وأصبح هناك هدف يومي من القتلى والمصابين والخرائب في غزة تحققها القوات الجوية الإسرائيلية يتراوح بين 300- 400 شهيد وأضعافهم من المصابين؛ الأمر الذي يطرح سؤال الهدف من الناحية العسكرية والسياسية؟ هل هو الانتقام الأعمى لما أصابهم 7 أكتوبر أم إن ثمة أهدافًا أخرى. لا شك أن ثمة هدفًا في الخلفية يتعلق باستعادة الصورة المهيبة، وإدماج العدو لقواته في معركة القتل وتكبيد الفلسطينين أكبر قدر من الخسائر “من غير رحمة ولا تردد”، ومحاولة تجديد القوة القتالية لدى جنوده، ولكن هذا الهدف نفسه يزيد من التحديات المستقبلية للكيان مجتمعًا وجيشًا. من ناحية ثانية طُرح –ضمن الحديث عن الحرب البرية- احتمال أن العدو يعمل على تمهيد أرض المعركة بما يتلاءم مع خطته. ومن ثم بدأت تتجلى عمليات تفريغ مربعات سكانية ليس فقط من سكانها بالتهجير، وإنما إزالة المباني ذاتها وتسويتها بالأرض لأغراض مثل الانزال الجوي للأفراد أو للمعدات، وإدارة معركة تطويق ومناورات لم تتحدد تفاصيلها. لكن تقارير العسكريين داخل العدو وخارجة شككت في جدوى هذا الأسلوب وأنه لا يضمن إضعاف قدرات فصائل المقاومة.

من ناحية أخرى، فإن عدم تحديد أهداف مسبقة للضربات، وعدم الإعلان عن إصابة أهداف عسكرية محددة، يقترب بسياسة العدو من سياسة الأرض المحروقة، التي لأجل إصابة أهداف عسكرية تحرق كل الأهداف المدنية الخاصة والعامة التي أمامها. ومن ثم فكأن العدو يبحث عن أرض معركة مفتوحة ليس فيها حواجز أو ستائر يستفيد منها المقامون. ليس واضحًا لا من جهة العدو ولا المقاومة كم الخسائر المباشرة التي لحقت بالأنفاق والمصانع والورش والمخازن والتحصينات التي يمتكلها فصائل المقاومة. وعقب أسبوعين كاملين من التدبير الكثيف والعميق لا تزال المقاومة –وبالأخص كتائب القسام- تطلق صواريخها باتجاه كل جهة في الأرض المحتلة شمالاً وجنوبًا ووسطًا وحول قطاع غزة.

فالواضح أن هذه الطريقة التدميرية لم تقم على حسابات عسكرية وسياسية متكاملة بقدر ما تفجرت عن حالة غضب وعناد واستكبار عمياء، أججتها -وحافظت عليها مؤججة- مواقف دول الغرب وخطاباتها التي اجتمعت على هدف سحق حماس. إذ إن هذا النوع من الهجمات لا يدع للمقاومين –وخاصة من النوعية الفلسطينية وبالأخص في قطاع غزة- سبيلاً سوى الاستبسال والصمود والاستمرار في المقاومة حتى الموت أو الانتصار، أو كما يردد متحدث القسام (وإن لجهاد: نصر أو استشهاد).

حائط الصد العسكري الفارق: صمود أهل غزة

في هذا الإطار ينبغي التنبّه إلى صورة مهمة في المشهد العسكري والسياسي تختفي وراء المشهد الإنساني والجلبة الإعلامية؛ وهي صورة “شعب غزة الفلسطيني” ومقاومته للحرب الصهيونية الوحشية. كيف واجه مواطنو غزة هذه القصفات الوحشية التي تهدم البيوت على رؤوسهم، وتقتل أولادهم وبناتهم ونساءهم ورجالهم وكبارهم وصغارهم بأعداد كبيرة وبصور شنيعة، في إطار من حصار حياتي ومعيشي كامل ومحكم، وخذلان من العالم ومن الأشقاء العرب والأخوة المسلمين؟ يصرخ كثير من الفلسطينين –في المشاهد التي ترسلها وسائل الإعلام- استغاثة بالأشقاء العرب وبالأخوة المسلمين، ويناشدون العالم إنقاذهم، ثم يتوجهون إلى الله تعالى بالدعوات والاستغاثات، لكن ذلك كله في إطار أكبر من الصمود والصبر والمصابرة والمثابرة والثبات والتجلّد والتحدي للعدو وأهدافه. رفض أهل غزة –ليس فقط التهجير خارج القطاع، ولكن التحرك من الشمال والوسط إلى الجنوب، والنسبة التي فرت بأولادها إلى الجنوب نجح العدو من ردّها عن ذلك بعد أن ضرب قافلة نازحة منهم وأبادهم تقريبًا (السبت 14 أكتوبر 2023)، وبعد أن كثف الضرب العنيف على كل أجزاء القطاع بالتوازي أو بالتناوب، لكن كثيرين ظلوا طوال الأسبوع الثاني يصرون على عدم ترك مساكنهم التي هُدّمت ورغم تحرك حوالي نصف سكان القطاع (أكثر من مليون نسمة) إلى الوسط والجنوب وإلى أماكن مختلفة، ومشكلة إيوائهم بعد أن أعلنت الأنروا أنها تأوى أكثر من 400 ألف من السكان وأنها لم تعد قادرة على فعل شيء آخر. الخلاصة أنه عبر أسبوعين من المعركة –وخلال الأسبوع الثالث- ظل “شعب غزة الفلسطيني” فاعلاً كبيرًا ومؤثرًا في مسار المعركة وروافدها السياسية، ولم يكتف بأنه يصير حالة إنسانية يشفق عليها المشاهدون. فقد رفض –عمليًا وتنفيذيًّا- لمشروع التهجير الذي ينازع عليه السياسيون، ويظل يقف إطارًا حاميًّا للمقاومة، وفي النهاية أفشل –حتى اللحظة- واحدًا من أهم أهداف العملية العسكرية التي يشنها العدو.

كان يكفي للمجازر الكثيرة التي وقعت، ومنها مجزرة المستشفى المعمداني، أن تحرك بأس وثبات هذا الشعب لكن ذلك لم يحدث، ومن ثم فمن المتوقع ألا يحدث، وأنه مع الوقت، ومع الضغوط المتبادلة على خلفية الأزمة الإنسانية، فإن هذا الشعب أقرب إلى الانتصار، عسكريًا وسياسيًّا، وليس فقط إنسانيًا.

ومن الجدير بالذكر أن مواقع إخبارية أجنبية ناطقة بالإنجليزية كانت أجمعت في منعطف الأسبوع الثاني للمعركة على عنوان “التهجير” وتحذير العدو لنصف سكان القطاع بإخلاء منازلهم والتوجه جنوبًا، “خلال 24 ساعة” ونشر موقع “فوكس نيوز” تقريرًا تحت هذا العنوان، وعنوان آخر هو “اخرجوا الآن GET OUT NOW” مع صورة خلفية لطابور من الدبابات الإسرائيلية، وتحذيرًا من الحرب البرية “الوشيكة”[3].

ولكن بعد أسبوعين من القصف الوحشي والهمجي يبدو أن هذا الهدف من الناحية العسكرية والعملياتية لم يتحقق؛ كون إسرائيل لم توجه أي ضربة قوية لقيادة حماس السياسية أو العسكرية سوى مقتل أيمن نوفل عضو المجلس العسكري العام وقائد لواء الوسطى في كتائب القسام. الأمر الذي حدا بالاحتلال إلى أن يواصل قصف المدنيين بلا هوادة في جميع جنبات القطاع المحاصر، والذي كانت قد قطعت عنه الماء والطعام والكهرباء والمساعدات الإنسانية. وقد بدت بوادر انتقال الأمر إلى الجبهة الشمالية، حتى إن اليونيفيل (قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان) حذرت -الثلاثاء 17/10- من الهجمات ضد المدنيين أو موظفي الأمم المتحدة في مناطقها بوصفها انتهاكات للقانون الدولي قد تصل إلى مستوى “جرائم الحرب” –مشيرة بالأخص إلى قصفات المدفعية الإسرائيلية العنيفة –على بلدات الحدود اللبنانية- لكن دون صدى لصوتها أو أصوات غيرها.

ثانيًا- الطواف حول النار: دوامة خطابات وحراكات سياسية ومدنية عبر المنطقة والعالم

شهد الأسبوع الثاني كذلك تصاعدًا في المساحة السياسة الدائرة حول المعركة المأساة العظيمة؛ ونتناولها على مستويين: محيط المقاومة المفترض أنه مؤازر لها خاصة في العالم العربي حكومات وشعوبَا، ومحيط العدو المفترض أنه مؤازر له، وقد جرى على كل من الدائرتين تطورات معينة من المهم الوقوف عليها وتدبر دلالاتها؛ سواء على مسار الصراع القائم، أو على مستوى أبعد يتعلق بالتفاعلات حول هذه المنطقة وقضيتها المركزية: تحرير فلسطين.

  • دوامة خطاب وحراك عربي ضعيفة التأثير: الأردن ومصر نموذجا

ومع هذا فإن المقاومة وحلفاء القضية الفلسطينية والمتعاطفين مع كارثة غزة الإنسانية لم ينجحوا في إحراز أي تقدم في الملف القانوني الدولي الإنساني أو الحقوقي أو حتى الأمني مما يجب تسجيله ومتابعته عبر تطور الأزمة.

وبينما يستبق العاهل الأردني زيارة مرتقبة للرئيس الأمريكي لعقد قمة رباعية (يحضرها رئيسا مصر والسلطة الفلسطينية) بتحذير من محاولة “تهجير” الفلسطينيين إلى مصر أو الأردن –بعد لقائه مع المستشار الألماني ألاف سولتش في برلين قائلاً: (هذا خط أخمر، لأنني أعتقد أن الخطة لدى بعض المشتبه بهم المعتادين هي محاولة خلق أمر واقع على الأرض… لا لاجئين في الأردن. ولا لاجئين في مصر). دفعت كارثة المستشفى العمداني التي راح ضحيتها نحو 500 إنسان على الأقل في غارة إسرائيلية (وعقب تهديد وإنذار مسبق بالإخلاء).

فأعلن الأردن إلغاء القمة الرباعية، قبيل وصول بايدن إلى إسرائيل، لتكون هي محطته الوحيدة، ويكتفي بالتواصل الهاتفي إبان رحيله خاصة مع الرئيس المصري بخصوص مهعبر رفح (المساعدات، التهجير،…).

وكان خطاب الأردن –وبالأخص وزير خارجيتها المفوة أيمن الصفدي- يتطور بشدة، ويتحدث العاهل الأردني عن خط أحمر يتعلق بالتهجير سواء لمصر أو للأردن، ويقول الصفدي في صدد إلغاء القمة الرباعية مع بايدن (الذي تم بالاتفاق بين الأشقاء الثلاثة الولايات المتحدة)؛ مبررا هذا الإلغاء: (لأننا نريد منها إذا عُقدت أن تنتج مخرجًا واحدًا لا ثاني له، وهو وقف الحرب واحترام إنسانية الفلسطينيين، وإيصال ما يستحقون من مساعدات. بما أن ذلك لن يكون متاحًا (الأربعاء) قررنا عدم عقد هذه القمة، على أن تعقد القمة في الوقت الذي يكون قرارها وقف الحرب ووقف هذه المجازر، ووقف سفك الدماء، ووقف تلك الحرب والعدوان الذي يدفع بالمنطقة برمتها إلى الهاوية”[4].

في المقابل …….. تطور الخطاب العربي بصفة عامة، والمصري بصفة خاصة، مع تطور الأزمة العسكرية والإنسانية، وتحركات الرأي العام العربي والعالمي. فالخطاب المصري على سبيل المثال بدا متزنًا في أول بيان للخارجية المصرية (ومثلها الخارجية السعودية) حيث حمّل الاحتلال بوجوده وتجميده للحل السياسي مسئولية الوضع الذي آلت إليه الأمور، ثم تطور خطاب السيسي إلى طلب التهدئة والسماح بإدخال المساعدات إلى القطاع. وفي بداية الأسبوع الثاني التقى السيسي أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي (عقب زيارة بلينكن لكل من إسرائيل والأردن وقطر والسعودية)، وبدا خطاب السيسي متطورًا وجيدًا حيث أفاض في الدفاع عن وجهة النظر المصرية والعربية، وقال ما مجمله:

  • التأخير في حل القضية الفلسطينية يترتب عليه المزيد من الضحايا، وغياب أفق هذا الحل “أدى لتفاقم الغضب”.
  • في الجولات الخمس السابقة للصراع في غزة بين الفلسطينيين والإسرائيليين سقط قتلى ومصابون بأرقام كبيرة: من الفلسطنيين 12500 قتيل من المدنيين، و100 ألف من المصابين منهم 2500 طفل قتيل. ومن الإسرائيليين 2700 قتيل (منهم ال1500 في الحرب الراهنة)، و12 ألف مصاب إسرائيلي ومنهم 150 طفلا قتيلا.
  • رد الفعل القائم لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها يتحول إلى عقاب جماعي لقطاع فيه 2.3 مليون فلسطيني.
  • وقال السيسي: “صحيح ما حدث منذ 9 أيام (بداية هجوم حماس)، كان كثيرًا وصعبًا، مفيش كلام، وإحنا نُدينه، مفيش كلام، ولكن أيضًا لازم نعرف إنه فيه عبارة عن تراكم من حالات الغضب والكراهية ترتبت على مدى أكثر من 40 سنة، ولا يوجد أفق لإيجاد حل للقضية الفلسطينية يعطي أملًا للفلسطينيين، ونقول ذلك لكي نؤسس على جهدنا وحركتنا المطلوبة لإيقاف الأزمة الحالية اللي يمكن أن تكون لها تداعيات على منطقة الشرق الأوسط كلها، ونبذل جهدنا أولًا لاحتواء الموقف، وعدم دخول أطراف أخرى إلى الصراع”.
  • وأردف السيسي مخاطبا بلينكن: “معالي وزير الخارجية بلينكن، أنت تحدثت وقلت إنك إنسان يهودي، وأنا اسمح لي أقولك إني أنا مواطن مصري نشأت في حي جنبًا إلى جنب مع اليهود في مصر، ولم يحدث أبدًا أنهم تعرضوا إلى أي شكل من أشكال القمع أو الاستهداف، وما حصلش في منطقتنا العربية والإسلامية إنه تم استهداف اليهود في تاريخهم القديم والحديث، يمكن إن حصل استهداف (لليهود) في أوروبا يمكن في إسبانيا، يمكن في دول أخرى، لكن في بلادنا العربية والإسلامية محصلش دا”.
  • وأضاف الرئيس المصري: “الموجة اللي اتشكلت في أعقاب الأزمة موجة ضخمة جدا، ونحتاج إننا نتحرك بقوة وبعزم، ومهم جدا جدا إن إحنا نتحرك ونخفض التوتر، ونيسر دخول المساعدات إلى قطاع غزة، لأنه النهاردة إحنا بنتكلم عن قطاع محاصر، لا فيه مياه ولا فيه كهرباء ولا فيه وقود، وبدأت النهاردة أزمة الخبز تتداعى”.
  • وأردف: “أنا بأقول الكلام دا لأن إحنا محتاجين نسمع الكلام دا من بعض، أنتم موجودون هنا في المنطقة عشان تسمعونا إحنا المعنيين بالقضية والعالمين إلى حد ما بأسباب الأزمات دي”.
  • وتساءل السيسي قائلا: “لماذا قتل السادات ولماذا قتل رابين؟، ومين اللي قتلهما؟ ورد قائلا: “المتطرفون”[5].

لكنه عاد يوم الأربعاء 18 أكتوبر -وفي لقائه مع المستشار الألماني أولاف سولتس (بعد زيارته لإسرائيل وتكراره لذات الخطاب الغربي المساند لإسرائيل وعدوانها مساندة مطلقة)- وأخرج السيسي خطابًا غاية في الغرابة والاضطراب والتداخل بين الإصرار على رفض سيناريو التهجير لا سيما إلى مصر، وبين دعوة لسيناريو بديل شديد الغرابة والإشعار باحتقار شديد للفلسطينيين:

“اسمحوا لي في البداية، أن أعرب عن بالغ الأسي والألم، وأتقدم بخالص التعازي، في ضحايا القصف الوحشي للمستشفي الأهلي المعمداني، وأؤكد إدانة مصر لكافة الاعمال العسكرية، التي تستهدف المدنيين بالمخالفة والانتهاك الصريح لكافة القوانين الدولية… وأشدد على رفض جميع الممارسات المتعمدة ضد المدنيين … وأطالب المجتمع الدولي بالتدخل لوقفها… بشكل فوري. … لقد تناولت مباحثاتنا اليوم، مع المستشار الألمانى بشكل تفصيلى، المواجهات العسكرية بين الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى، والتصعيد العسكرى فى قطاع غزة، الذى أودى بحياة آلاف من المدنيين من الجانبين، وينذر أيضا بمخاطر جسيمة على المدنيين وعلى شعوب المنطقة، كما أن الوضع الإنسانى فى قطاع غزة، آخذ فى التدهور بصورة مؤسفة.. وغير مسبوقة. إن استمرار العمليات العسكرية الحالية، سيكون له تداعيات أمنية وإنسانية، يمكن أن تخرج عن السيطرة، بل تنذر بخطورة توسيع رقعة الصراع، فى حالة عدم تضافر جهود كافة الأطراف الدولية والإقليمية، للوقف الفورى للتصعيد الحالى.

لقد تناولت والمستشار “شولتس”، الجهود المصرية من أجل احتواء الأزمة، من خلال اتصالاتنا المكثفة، مع طرفى الصراع وكافة الأطراف الدولية والإقليمية، على مدار الأيام الماضية.. واتفقنا فى الرؤى، حول الحاجة الضرورية لعودة مسار التهدئة، وفتح آفاق جديدة للتسوية، من أجل تجنب انزلاق المنطقة، إلى حلقة مفرغة من العنف، وتعريض حياة المدنيين للمزيد من المخاطر. أكدت كذلك، ضرورة التعامل مع القضية الفلسطينية بمنظور شامل ومتكامل، يضمن حقوق الفلسطينيين، بإقامة دولتهم المستقلة على حدود ١٩٦٧، وعاصمتها “القدس الشرقية”. واتفقنا فى الرؤى مع فخامة المستشار الألمانى، على أهمية العمل بشكل مكثف، على استئناف عملية السلام، عقب احتواء التصعيد الراهن، وإيجاد آفاق لتسوية القضية الفلسطينية.

كما أعربت للمستشار عن قلق مصر البالغ، من خطورة تدهور الأوضاع الإنسانية فى قطاع غزة وشددت على ضرورة السماح، بمرور المساعدات الإنسانية والإغاثية للقطاع، وتيسير عمل المنظمات الأممية والإنسانية ذات الصلة.

وأكدت مجددًا، استمرار مصر فى استقبال المساعدات الإنسانية، والتزامها بنقل تلك المساعدات لقطاع غزة، عن طريق معبر رفح البرى، لدى سماح الأوضاع بذلك أخذا فى الاعتبار، أن مصر لم تقم بإغلاقه منذ اندلاع الأزمة، إلا أن التطورات على الأرض، وتكرار القصف الإسرائيلى للجانب الفلسطينى من المعبر.. حال دون عمله. كما أكدت رفض مصر، لتصفية القضية الفلسطينية بالأدوات العسكرية، أو أية محاولات، لتهجير الفلسطينيين قسريا من أرضهم، أو أن يأتى ذلك على حساب دول المنطقة. وأكدت فى هذا الصدد، أن مصر ستظل على موقفها، الداعم للحق الفلسطينى المشروع فى أرضه، ونضال الشعب الفلسطينى.

ثم تكلم السيسي من غير الورقة المكتوبة ليقول: “اسمحوا لي هنا أنا تحدثت مطولًا مع معالي المستشار في هذا الأمر، وأكدت أن تصفية القضية الفلسطينية في غاية في الخطورة، وأنا سأشرح كثيرًا في هذا الأمر لأننا نرى أن ما يحدث في غزة الآن ليس فقط الحرص على توجيه عمل عسكري ضد حماس، إنما هو محاولة لدفع السكان المدنيين إلى الهجرة واللجوء إلى مصر. وهنا أنا سأتكلم بمنهى الصراحة لكل من يهمه السلام في المنطقة واهمية ان ده لا نقبله كلنا، مش بس في مصر.نحن دولة ذات سيادة، حرصت خلال السنوات الماضية منذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل على أن يكون هذا المسار مسار خيار استراتيجي نحرص عليه وننميه ونسعى أيضا على أن يكون هذا المسار داعم لدول أخرى للنضمام إليه. أنا بي عاوز أقول إن القطاع الان تحت سيطرة الدولة الاسرائيلية وخلال السنوات الماضة مش هاقول لم تنجح اسرائيل في السيطرة على بناء قدرات عسكرية للجماعات والفصائل الفلسطينية. لكن عاوز أقول ايه اللي خلى الموضوع وصل لكده. هل فيه أفق هل فيه دولة فلسطينية كانت خلال ال20  30 سنة اللي فاتت نجحنا انها تخرج الى النور رغم المبادرات المختلفة والقوانين المختلفة التي صدرت من الامم المتحدة والمنظمات الدولية على اقامة دولة فلسطينية “منزوعة السلاح”، وطرحنا ده ان تكون في قوات أممية أو من الناتو أو قوات عربية تضمن أمن واستقرار كل من الشعب الاسرائيلي والمواطن الاسرائيلي والشعب الفلسطيني والمواطن الفلسطيني.

طب ده ماحصلش. احنا لو جينا النهاردة واجتزأنا ما يحدث الان في فلسطين دون معرفة أسباب ده. احنا مش بنبرر. لا نبرر ابدا أي عمل يستهدف أي مدني. لكن احنا بنتكلم على ان احنا مش عايزين أبدا واحنا بنتناول القضية ديه اللي احنا بنعتبرها قضية القضايا؛ قضية منطقتنا بالكامل ولها تأثير كبير جدا على الامن والاستقرار وفيه رأي عام عربي وإسلامي داعم جدا لهذا الامر ويتابع بشدة كل ما يحدث فيها.

إذن فكرة النزوح أو تهجير الفلسطيننيين من القطاع إلى مصر معناه ببساطة إنه هيحصل أيضا مماثل هو تهجير الفلسطينيين من الصفة غلى الاردن وبالتالي تبقى فكرة الدولة الفلسطينية اللي احنا بنتكلم عليها، واللي المجتمع الجزلي كله بيتكلم عليها غير قابلة للتنفيذ؛ لأن الأرض موجودة لكن الشعب مش موجود. وبالتالي انا باحذر من خطورة هذا الأمر.

بالمناسبة وأنا شرحت هذا الأمر مطولا لسيادة المستشار الذي ابدى تفاهما وتقديرا كبيرا للفكرة. الفكرة أن نقل المواطنين الفلسطينيين من القطاع إلى سينا ده عبارة عن ان احنا بننقل فكرة المقاومة فكرة القتال من قطاع غزة الى سينا وبالتال تصبح سينا قاعدة للانطلاق بعمليات ضد اسرائيل وفي الحالة دي هيبقى من حق اسرائيل الدفاع عن نفسها وأمنها القومي، تقوم النهاردة في اطار رد فعلها تقوم تتعامل مع مصر على أن هي.. وتقوم بتوجيه ضربات للأراضي المصرية. مصر دولة كبيرة حرصت على السلام باخلاص وبالتالي محتاجين ان كلنا نساهم في ان الاستثمار الكبير اللي عملناه في هذا السلام لا يتم تبديده بفكرة غير قابلة للتنفيذ.

يبقى أمر مهم، وانا قلت هذا الامر لفخامة المستشار وباقوله في العلن. إذا كانت فيه فكرة للتهجير توجد صحراء النقب في اسرائيل ممكن قوي نقل الفلسطينيين لحد تنتهي اسرائيل من مهمتها المعلنة في تصفية المقاومة أو الجماعات المسلحة في حماس والجهاد الإسلامي وغيره في القطاع ، ثم بعد كده تبقى ترجعهم إذا شاءت.

لكن نقلهم إلى مصر، العملية العسكرية دي ممكن تستمر سنوات، وهي عملية فضفاضة: أقول لسة مخلصناش الإرهاب، لسة مانتهناش من المهمة، وتتحمل مصر تبعات هذا الأمر وتتحول سيناء إلى قاعدة للانطلاق بعمليات ارهابية ضد إسرائيل، ونتحمل احنا في مصر مسئولية ذلك، ويبقى السلام الي عملناه كله بيتلاشى بين إيدينا في إطار فكرة لتصفية القضية الفلسطينية.

أنا قلت لمعالي المستشار مصر فيها 105 مليون والراي العام المصري والراي العام العربي بيتأثر بعضه ببعض. واذا يعني.. استدعى الأمر ان انا اطلب من الشعب المصري الخروج للتعبير عن رفض هذه الفكرة فستروا ملايين من المصريين ملايين من المصريين يخرجون للتعبير عن رفض هذه الفكرة ودعم الموقف المصري في هذا الأمر. انا باقول الكلام دوت عشان قبل ما الأمور ما.. لأن احنا شايفين ان عملية الحصار المطبق على القطاع – انا اسف ان انا اطلت معالي المستشار ولكن دي قضية خطيرة- وعملية منع المياه والوقود والكهربا ودخلو المساعدات الى القطاع هو الهدف النهائي في النهاية هو نقل المواطنين الفلسطينيين من القطاع الى مصر وهذا امر نحن نرفض تصفية القضية الفلسطينينة والتهجير إلى سيناء.

لقد تناولت مع فخامة المستشار “شولتس” أيضا، القمة التى دعت لها مصر، لبحث تطورات ومستقبل القضية الفلسطينية وعملية السلام وأكدنا أهمية أن تسفر القمة، عن مخرجات تساهم فى وقف التصعيد الجارى، حقنا لدماء المدنيين، وللتعامل مع الوضع الإنسانى الآخذ فى التدهور، وإعطاء دفعة قوية لمسار السلام”[6].

وواضح ما في هذا الخطاب من غرابة ومخاطر، واضطراب، ما يثيره من مخاوف وتشككات كبيرة. وكان السيسي قد دعا إلى قمة إقليمية للتصدي للأزمة؛ الأمر الذي سيحدث في أول الأسبوع الثالث باسم مؤتمر القاهرة للسلام، وللأسف لن يكون له كبير أثر.

  • حراكات وشقاقات داخلية متنامية في الغرب: بين العسكري والإنساني، والسياسي والمدني

استمر الحراك والخطاب الرسمي الغربي يتسع ببطء حول البؤرة التي تم ترسيخها في الأيام الأولى للحرب: التأييد والتفويض المطلق للعدو الصهيوني والدفاع عن أفعاله الحالية والمستقبلية. في الجمعة 13 أكتوبر دعا سفير روسيا لدى لدى الأمم المتحدة (فاستلي نيبينثريا) إلى “وقف إنساني لإطلاق النار” في قطاع غزة وإسرائيل، وتم تقديمه فعلاً الاثنين 16 أكتوبر إلى مجلس الأمم، وشاركت فيه عشرات الدول، لكن أربعة من الدول (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، واليابان) تسببوا في إفشال هذا القرار ولم يزل الخطاب الروسي يصرّ على تصفية حساباته مع الجانب الأمريكي، وتحميله مسئولية الأمر كله وتدهوراته الجارية.لكن مندوبي الولايات المتحدة وبريطانيا يردون بأن على مجلس الأمن الدولي “إدانة حماس وهجومها الأكثر دموية في تاريخ إسرائيل”!! تصميمًا على تكريس الاستثنائية الإسرائيلية وتبجيل إسرائيل المستئناة.

في اليوم التالي (الثلاثاء 17 أكتوبر) وقعت مذبحة المستشفى المعمداني، فواجهها الغرب الرسمي ببرود شديد؛ وراح سريعًا يروج للقول الإسرائيلي بأن المذبحة جاءت نتيجة قصف خاطئ من سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الفلسطيني. وفقط. واستمر هذا الخطاب يكافح ضد الهجمة الإعلامية المضادة التي خرجت من الشعوب والنخب والرموز تدافع عن الحق الفلسطيني وتدعو إلى ضرورة وقف المذبحة الجارية في غزة، لكن الخطاب والحراك السياسي الغربي لم يراوح مكانه إلا قليلاً.

في هذا الأسبوع الثاني اتسعت نسبيًّا هامش الإشارة إلى الكارثة الإنسانية، وضرورة –ليس إيقاف القصف- ولكن إدخال المساعدات في كلام محفوف بالحديث عن مشروع التهجير، ومتداخل مع حديث الإفراج عن الرهائن الغربيين الذين تحتجزهم قوات المقاومة.

وبينما أصرّ العدو على إرجاء موضوع الأسرى والرهائن لصالح أولوية الحرب العسكرية، فإن هذا البند بدأ يرتفع في قائمة أولويات الخطاب السياسي الأمريكي ثم الأوروبي الفردي (كان الاتحاد الأوروبي -لدى بعض ممثلية- قد سبق ورفع من أولوية مراعاة المأساة الإنسانية وموضوع الرهائن قبل دوله الكبرى).

ووسط استمرار زيارات العزاء والتأييد والمؤازرة الغربية للكيان الصهيوني وحملته الجارية، أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكي سيزور المنطقة نهاية هذا الأسبوع (الثاني)، وتحدد لقاؤه بالصهاينة ثم برؤساء عرب في عمّان (ملك الأردن، الرئيس المصري- رئيس السلطة الفلسطينية). لكن وقوع مذبحة المستشفى المعمداني، وسط ارتفاع وتيرة الاحتقان العربي من استمرار المذبحة، وتعنت العدو في “السماح” لمصر بإدخال المساعدات إلى القطاع، أدى إلى انتفاضة شعبية وإعلان رئيس السلطة الفلسطينية (مساء الثلاثاء بعد المذبحة مباشرة) أنه عاد إلى رام الله وأنه -ولا الرئيس المصري ولا العاهل الأردني- سيلتقون الرئيس الأمريكي.

زيارة بادين الثانية خلال أقل من أسبوعين: ما الجديد؟

ومع هذا زار بايدن الكيان الصهيوني وكرر رؤيته بإن إسرائيل لم تقصف المستشفى، ضاربًا عرض الحائط بأن روايات أخرى- وظل يؤكد تأييده، ويهدد إيران وحزب الله، وأية أطراف تسعى لتوسيع دائرة الحرب في هذا الوقت تجددت الوتيرة المرتفعة لمناوشات جنوب لبنان بين العدو والمقاومة –بعد أن كانت تراجعت أو ثبتت عند تراشفات خفيفة- مما رفع من الصوت الغربي للتحذير من “توسعة نطاق الحرب”، الأمر الذي سوف يكون أساسيًّا مع ارتفاع وتيرة الخطاب الإيراني والتراشقات عبر الحدود اللبنانية مع العدو وتدخل عسكري رمزي من جهتي العراق واليمن ضد أهداف أمريكية وإسرائيلية.

في نهاية الأسبوع الأول كانت قوات العدو قتلت صحافيا تابعًا لوكالة رويترز وأصابت ستة إعلاميين من وكالتي فرانس برس ورويترز وقناة الجزيرة خلال تغطيتهم الضربات المتبادلة على حدود لبنان الجنوبية، ولم يحرك الغرب ساكنًا؛ إضافة إلى تجاهله قتل الصحافيين والعاملين في القطاع الطبي والإغاثي في غزة. وفي الوقت ذاته أعلنت منظمة العفو الدولية أنها تحقق في استعمال قوات العدو للفسفور الأبيض في قصفها على قطاع غزة (وهو مادة حارقة لا يفترض أن يضرب بها البشر، إنما تستخدم على الأرض والمنشآت الفارغة لكي تحدث حاجز دخان كثيف، فهو يطلق درجة حرارة عالية جدًا، ويستمر في الإحراق، ويحرق اللحم ويخترقه إذا مسه ولا يمكن إخماد اشتعاله بالماء). حيث صرحت المنظمة بأنها تحققت من تجهُّز الوحدات العسكرية للعدو بقذائف مدفعية من هذا الفسفور الأبيض[7].

في هذا التوقيت بين الثلاثاء الدامي والأربعاء الذي جمع بين انتفاضة الشعوب وكثير من الخطابات الرسمية لدول ومنظمات واصل بايدن والحكومات الغربية المؤيدة لإسرائيل منظومة الكذب وادعاء أن الكارثة لم يتسبب فيها العدو الصهيوني.

الاتحاد الأوروبي لا تزال تسوده خطابات الأسبوع الأول، لكن الخطاب الإنساني والأخلاقي أخذ في الحضور، وتعلق رئيسة المفوضية الأوروبية (أورسولا فون وبرلاين) أن الاتحاد الأوروبي سيفتح “ممرًا إنسانيًا جويًّا” باتجاه قطاع غزة، لكن لن يدخل مباشرة طبعًا، إنما عبر مصر؛ أي لا جديد، مع التأكيد ألا تستفيد منها “حماس” لكن في الوقت ذاته لا تزال الأجواء ضد تأييد القضية الفلسطينية. فقناة “بي بي سي” البريطانية تعلن (الأربعاء 18/10) عن تحقيق مع ستة من مراسليها ومساهم مستقل يتعاون معها في الخدمة العربية؛ لماذا؟ لادعاءات بأنهم “أظهروا تحيزًا ضد إسرائيل وتهليلاً لهجمات حركة حماس الفلسطينية”؛ في إشارة إلى أنشطتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وإعادة نشر محتوى مؤيد للفلسطينيين وانتقادات إسرائيل؛ بما يعني مخالفتهم لقواعد “الحياد” الخاصة بالقناة /المحطة.[8]

وثمة مطاردة في وسائل الإعلام التقليدية والجديدة للمنشورات التي تراها الحكومة البريطانية وأجهزتها الإعلامية (مسيئة) كالتي تصف طوفان الأقصى بـ(صباح الأمل) لفلسطين، أو تصف حماس بـ(مقاتلين من أجل الحرية), يأتي هذا في ظل ضغوط على هيئة الإذاعة البريطانية ذاتها (بي بي سي)، وانتقادات، عنيفة لها، لرفضها وصف حماس بأنها جماعة إرهابية، وفق تصنيف لندن لها، واكتفائها بوصفي حماس والمقاومين بـ”المسلحين”، وكذلك في وصفها لضحايا التصعيد المستمر بين غزة والمقاومة حيث تشير إلى الإسرائيليين بـ”قتلى” والفلسطينين بـ”موتى” في غارات جوية انتقامية واسعة النطاق. يشير هذا (النموذج) إلى الحالة الإعلامية والسياسية والشعبية في الغرب على ضفاف النار الموقدة في فلسطين.

كذلك تتوالى التقارير عن مخاوف لدى العرب والمسلمين في الولايات المتحدة (والغرب) من عودة أجواء الريبة والتشكيك والتهديد التي أعقبت من قبل هجمات 11 سبتمبر 2001، في إشارة إلى حادث قتل الطفل الفلسطيني في إلينوي (السبت 14/10)؛ أو ما وصف بعودة أجواء الـ”إسلاموفوبيا”، وازدراء ذوي المظهر الإسلامي أو الذين يقولون (السلام عليكم). وقد تبارى مسئولون في الحكومة والكونجرس فيدراليون وعبر الولايات في نشر خطاب الكراهية والعداء؛ وصفوا غزة بألمانيا النازية، وأن أهلها “معادون للسامية”. وفي الوقت ذاته تصاعدت أصوات مقاومة لهذه الحملة قادها رسميون ورموز وأمريكيون. مما يعبر عنه هذه الحالة مثلًا أن الناشطة الأمريكية المصرية آية حجازي (36 سنة) ذكرت أنها تتعرض لضغوط لإسكاتها، مع وصمها بأنها “تمثل الشر بعينه” وأنه عليها أن تثبت أنها ليست من “الإرهابيين” وأنه بالرغم من حبّها “ارتداء الكوفية” أي الفلسطينية فإنها صارت تتردد في ذلك خوفًا على ابنتها بعد حادث الطفل وديع الفيومي[9].

في الأربعاء 18 أكتوبر وصل بايدن إلى إسرائيل ليكرر التعازي والتأييد لما [10]تقوم به من مجازر تحت وصف “الدفاع عن النفس” والقضاء على حماس الإرهابية، ولم تمنعه فاجعة المستشفى المعمداني من تكرار هذه النغمة، بل انه حضر مجلس الحرب الاسرائيلي – في سابقة لم تحدث من قبل من أي رئيس أمريكي أو غير أمريكي. وتعددت ملفات زيارة بايدن في إسرائيل، بعد إلغاء قمته مع الرؤساء العرب الثلاثة. ومن البداية كان كيربي متحدث البيت الأبيض قد أعلن أن بايدن سيستبدل بهذه القمة اتصالات هاتفية مع الرؤساء العرب عند عودته. في إسرائيل أعلن بايدن أنه غاضب، وحزين جدا، لكنه استمع إلى شرح إلى استراتيجية إسرائيل وأهدافها العسكرية، في اجتماع مع نتنياهو ومع فريقه الحكومي وخاصة قادة جيشه، في ظل استمرار الحديث عن “عملية برية” وشيكة ويجري تأكيده من قاجة إسرائيل وحلفائهم. تحدث بايدن أيضا عن إيصال المساعدات وأنه اتفق مع الإسرائيليين والمصريين لإدخالها، ولما لم يحجث هذا، تحدث بعد مغادرته بأن أمامها 24 أو 48 ساعة، لكن الأسبوع الثاني للحرب مر دون أن يحدث شيء، (وسوف تدخل أول دفعة السبت 21 / 10 أول الأسبوع الثالث بالقطارة وعلى مسافات زمنية).

تحدث بايدن عن ملف الرهائن (فقدت الولاايت المتحدة 31 من حاملي جنسيتها في طوفان الأقصى، وعدد قليل من المحتجزين في غزة)، وقد التقى بايدن مثل باقي زائري إسرائيل ببعض أسر هؤلاء الأسرى المحتجزين. وفي ختام زيارته، أصر بايدن على تكرار ما بدأ به من أن طوفان الأقصى 7 أكتوبر هو تكرار ليوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة. وأعلى من هدف “إعادة الرهائن الذين في غزة” وكرر نشيد التأييد: “حملت رسالة واحدة إلى إسرائيل؛ وهي أنكم لستم وحدكم،.. إن إسرائيل تم تأسيسها لكي تكون دولة آمنة لليهود في العالم، ولابد أن تبقى كذلك.. لدينا مسئولية حيال أمن إسرائيل، وسنبقى على دعمنا لها، وسنسعى ألا تتوسع دائرة الحرب”.

من المهم التوقف أمام مستجدات خطاب بايدن في نهاية الأسبوع الثاني من الحرب:

  • لا شيء أهم من إعادة الرهائن. وطلبت من إسرائيل التعاون مع الصليب الأحمر “لزيارة الرهائن”.
  • سنسعى ألا تتوسع دائرة الحرب.
  • هناك أثمان في زمن الحرب.
  • يجب أن يكون هناك وضوح في الأهداف.
  • يجب تحقيق العدالة.
  • سنرسل مساعدات للمدنيين بغزة عبر مصر، وإسرائيل وافقت على دخولها في أسرع وقت ممكن.
  • الشعب الفلسطيني يعاني بشكل كبير أيضا، ويجب أن يعيش الشعبان الإسرائيلي والفلسطيني “بكرامة”. وتم تخصيص مائة مليون دولار مساعدات إنساية للفلسطينين في غزة والضفة الغربية.

شقاق وتضارب مع الرأي العام المعارض للحرب

قرب نهاية الأسبوع تصاعدت مظاهر الرأي العام العالمي المضاد للعدوان الصهيوني على غزة، بشكل واضح. في الأربعاء الذي تلى مذبحة المستشفى المعمداني على سبيل المثال اقتحم عدد كبير من متظاهرين يهود مبنى “كانون هاوس” الغداري التابع للكونجرس الأمريكي للمطالبة بوقف إطلاق النار الغسرائيلي على غزة (جسور بوست الخميس 19 أكتوبر).

وفي الخميس 19 أكتوبر بدأ رئيس الوزراء البريطاني زيارته إلى المنطقة بادئا بإسرائيل على ذات نهج القادة الغربيين (سبقه بايدن وفريقه، وشولتس المستشار الألماني، وسيعقبه ماكرون في منتصف وأواخر الأسبوع الثالث، كأنه جدول مرتب، مع ذات المراسم والممارسات والخطابات). كتب سوناك عقب وصوله على حسابه على موقع (إكس): “أنا في إسرائيل. أمة في حالة حزن. أبكي معكم، وأقف معكم ضد آفة الإرهاب، اليوم وإلى الأبد”.[11] هذا في الوقت الذي تشهد بلاده صراعا مجتمعيا متصاعدا حول الهوية والموقف من الأزمة في فلسطين. فقد وصف زعيم حزب العمال المعارض السير كير ستارمر، ارتفاع جرائم معادة السامية والإسلاموفوبيا، بعد اندلاع تلك الأزمة، وصف الأمر بأنه “مثير للاشمئزاز”، بعد أن أصبحت العائلات تخفي هوياتها.. ثمة كتابات عنصرية على الجدران، إجبار مساجد على تشديد الإجراءات الأمنية، التحدث إلى المسلمين البريطانيين كما لو كانوا إرهابيين، طلاء المدارس اليهودية باللون الأحمر، وأصبحت العائلات اليهودية تخفي هوياتها[12]. على الضفة الأخرى، يطالب نواب جهوريون في الكونجرس الأمريكي بفرض حظر على دوم اللاجئين الفلسطينيين إلى الولايات المتحدة في خضم الحرب الدائرة.

واتسع الشقاق في أوروبا والغرب عموما في مختلف الساحات الإعلامية والمدنية ومنها مجال الرياضة. فعلى سبيل المثال، أوقف نادي “نيس” الفرنسي مدافعه الجزائري يوسف عطال “حتى إشعار آخر” على خلفية نشره مقطع فيديو على حسابه على موقع التواصل الاجتماعي، بعد تحقيق قضائي أولي معه بتهمة “الدفاع عن الإرهاب” و”معاداة السامية”، رغم مسارعة اللاعب لمحو المنشور وتقديم اعتذار عنه. الأمر الذي وقع ما يشابهه مع لاعبين آخرين من أمثال كريم بنزيمة، إيريك كانتونا، نبيل فقير، وغيرهم.

هذا بينما تستمر وتتصاعد المظاهرات الضخمة المتضامنة مع أهل غزة والفلسطينيين بشكل عام، في الكثير من مدن العالم في العالم العربي والإسلامي وفي الغرب، الأمر الذي سيبلغ أشده الأربعاء والخميس إثر مذبحة المستشفى المعمداني التي فجرت غضبا عالميا عارما، ثم كانت الجمعة 20 أكتوبر بمثابة جمعة التضامن مع غزة وفلسطين عبر العالم العربي والإسلامي على وجه الخصوص، بينما لا تنقطع التظاهرات من المدن الغربية بأشكال مختلفة.

وهكذا، شهد الأسبوع الثاني من طوفان الأقصى دوامات كبيرة في قلب المعركة وعلى ضفافها في المنطقة العربية ثم في العالم الإسلامي والغرب. خطابات وبيانات، والتقاءات واتصالات وتحركات.. كلها لم تستطع إطفاء النيران الجحيمية المشتعلة في غزة، أو تهدئتها أو كسر الحصار الإسرائيلي المحكم على الحياة في القطاع، ولكنها أفرزت تدافعا كبيرا متعدد المستويات والأبعاد، ما سيكون له دلالاته في تطورات الأزمة في الأسابيع التالية، وخاصة فيما تنذر به إسرائيل من أول يوم باسم “المعركة البرية الشاملة” للقضاء على حركة حماس والمقاومة كما يزعم العدو.

ثالثا- حديث الطريق نحو الحرب البرية

أيا ما كانت الحرب الشاملة (البرية) ستقع أو لا، وقريبا أو بعد حين، فإن الأسبوع الثاني من المعركة بين قوات الاحتلال الصهيوني وغزة (وليست المقاومة وحدها) شهد تطورات من المهم الوقوف عليها للاقتراب من طبيعة استراتيجية العدو في هذه الحرب، والاحتمالات المستقبلية القريبة. كيف تطور السلوك العسكري الصهيوني خلال هذا الأسبوع قياسا على ما سبقه، وما دلالة هذا التطور استراتيجيا وسياسيا وقيميا وفيما يتبع ذلك من حرب إعلامية وما يتفاقم من مأساة إنسانية؟

خلال الأسبوع الأولى تلقى العدو الصهيوني ضربة وصدمة كبيرتين بعملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023؛ تحكمت الصدمة في فكره وحركته العسكرية بين اليومين والثلاثة مع تبين حجم الخسائر، حتى بدأ يسترد شيئا من توازنه؛ فيستعيد وحدة قيادته، ويحدد أهدافه، ويحضر لخطته للرد، ويعبئ موارده، ويستدعي حلفاءه. ومن ثم بدأ العدو بإعلان “حالة الحرب” بما لها من تفويضات داخلية كبيرة للقيادة واستدعاء لمساعدات خارجية من الحلفاء؛ وهي غير العمليات السابقة التي لم تكن تؤطر بوصفها حالة حرب. وأطلقت حكومة نتنياهو عملية “السيوف الحديدية” التي تدرجت من استعادة أرض “غلاف غزة”، فـ”معاقبة غزة” بعقاب هائل؛ فالبحث عن معركة برية حاسمة[13]. كان واحدا من أهم أهداف العدو العسكرية تحييد الجبهات الأخرى غير غزة، أو الاستعداد للحرب على أكثر من جبهة؛ الأمر الذي تجلى في التناوش المحسوب مع الجبهة الشمالية في لبنان.

سرعة الانتقال من الصدمة إلى الهجمة مما يحسب لهذا العدو ولمؤسساته الحاكمة، ويُتحسب له. ومن ناحية أخرى قد يكون عدم مراعاة ذلك مما يحسب على المقاومة وخطتها؛ إذ إن قوة الضربة كان ينبغي عسكريا أن يعقبها نوع من تعزيز المكاسب وليس الرجوع عنها؛ وهذا لم يحدث على الأقل حتى الآن. وربما يبرر ذلك بالوضعية الاستئناية لحالة المقاومة الفلسطينية وربما يفسر بأن طرق حرب تنظيمات المقاومة ليست كالدول[14].

خلص الأسبوع الأول إلى أن العدو الصهيوني انتقل سريعا إلى عمليتين: تدمير غزة وتكثير قتلاها، ومناوشة جبهة حزب نصرالله اللبناني وما معه من مقاومة فلسطينية في الشمال؛ وذلك في إطار حملة سياسية ودعائية، داخلية وخارجية، ضخمة. فماذا عن الأسبوع الثاني؟ نحاول أن نجيب عن هذا من خلال عدد من النقاط التي تكشف عما وصلت إليه استراتيجية العدو في هذه الحرب وخاصة أهدافه وأدواته وخططه المعلنة والآثار السياسية والأخلاقية لعملياته الجارية.

  • المحاربة بالهدف الفائق وبالدعاية العالمية واستدعاء الإسناد العسكري الغربي الكبير

لعل أولى أدوات الحرب التي دخل بها العدو الصهيوني حرب الرد على طوفان الأقصى هو الخطاب العسكري، وبالأخص خطاب الهدف. فخلال الأسبوع الأول قد رفع النتنياهو وفريقه -من بداية خطاباتهم- من سقف أهدافهم جدا بالحديث عن سحق حركة حماس والقضاء على سلطتها وبنيتها وقدراتها العسكرية في قطاع غزة. وأُدخل في الهدف تنظيف الصورة وصناعة الخيال عن قوة العدو وقدراته؛ إذ يعلن قادته باستمرار بأن ما سيقومون به سيظل عالقا في أذهان الأجيال المقبلة. لا شك أن في تصريحاتهم الكثير من التهويل لزوم الحرب النفسية والدعاية الحربية، لكنها أيضا تشير إلى مساحات الاهتمام والتركيز والاستهداف. ستبين المقارنة بين الخطابات وبين الممارسات العملية قدر المسافة بين الرغبات والأهداف، وتكشف تطورات الهدف عن ميزان الإمكانيات والتحديات لدى العدو مع مرور الوقت.

في الأسبوع الثاني كان هدف القضاء على حماس قد ترسخ في الخطاب العسكري للعدو، وفي خطاب كبار حلفائه في الولايات المتحدة وأوروبا. لكن طريقته في الحرب ظلت بعيدة نوعا عن مباشرة هذا الهدف. فقد استمر العدو في عملية التدمير والقتل عبر الغارات الجوية الكثيرة والكثيفة على مدار الساعة عبر اليوم، مع الاستمرار في مناوشة المقاومة اللبنانية جنوب لبنان، بوتيرة ضعيفة لم تلبث أن تسارعت وتكثفت نوعا منذ منتصف الأسبوع وحتى مطالع الأسبوع التالي.

ومع هذا ظل “حديث الهدف” مترددا طوال الأسبوع الثاني؛ وخاصة الهدف العملياتي المركزي المتعلق بالحرب البرية (الشاملة وغير معروفة الشكل) والاجتياح البري لغزة من أجل تحقيق الهدف الأعلى للعملية.  تلجلج حديث الحرب البرية ومن تأجل موعدها بأكثر من حجة بعد أن قيل إنها وشيكة. واستمر السجال بين العسكريين قائما حول اتساق هذا الهدف مع عملية تدمير غزة الجارية. فبينما غلب على خطاب العدو تأييد حرب الإبادة على شعب غزة، وتغافل حلفاؤه عن المأساة إلا قليلا، قال نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في الاحتياط، يائير غولان، إن “من يدعو إلى تدمير غزة من الجو قبل الاجتياح البري، لم يقرأ التاريخ العسكري. من أحد الاستنتاجات الكبيرة من حصار ستالينغراد، أن ما أضر الألمان تدميرهم لستالينغراد ما حولها إلى مخابئ متكاملة ومفاجئة للجيش السوفييتي”، وفق تعبيره. وأضاف: “حماس لا تنتظرنا في الطابق العاشر بل في أنفاق تحت الأرض. تدمير غزة سيضر بجهود الجيش”[15]. وهذا كما هو واضح اعتراض لسبب عسكري وليس إنسانيا. ومع ذلك ظل الخطاب يردد أنه “لن تكون هناك حماس” بعد هذه الحرب البرية.

وفي الجمعة 20 أكتوبر كتب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي على حسابه على “تويتر” أن ” الجيش لا يزال يستعد للمراحل التالية من القتال والتي من المتوقع أن تشمل هجوما بريا كبيرا”[16]. وفي اليوم ذاته، نقل موقع “واينت” العبري الجمعة، عن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إضافته هدفا للعملية العسكرية في غزة غير القضاء على حماس هو “إنشاء نظام أمني جديد في غزة”؛ حيث قال غالانت -في اجتماع للجنة الخارجية والأمنية- إن العملية ستتكون من ثلاث مراحل: “المرحلة الأولى: حملة عسكرية بالنار والمناورة لتدمير حماس. المرحلة الثانية: استمرار القتال بدرجة أقل حدة والقضاء على جيوب المقاومة. المرحلة الثالثة: إنشاء نظام أمني جديد في قطاع غزة، وإزالة مسئولية إسرائيل عن الحياة في القطاع، وخلق واقع أمني جديد لمواطني إسرائيل”. وقد سبق ذلك بليلة نشر يديعوت أحرونوت تقريرا مهما عن الخطة الاستراتيجية الإسرائيلية لهذه الحرب، يأتي في موضعه.

في إطار المحاربة والتهديد بالهدف المبالغ فيه، عزز العدو خطابه العسكري بدعاية سياسية وإعلامية جبارة؛ قامت على ثلاثة عناصر واستبطنت عنصرا عنصريا رابعا. فقد عمد العدو وإعلامه العسكري والسياسي وإعلام حلفائه إلى التهويل البالغ من الإصابة التي أصابته، على النحو الذي أوضحته تقارير الأسبوع الأول. واستكمل ذلك بالعنصر الثاني بعملية ممنهجة لشيطنة حركة حماس وحركة الجهاد والفصائل المقاومة في غزة عموما، ووصمهم بالإرهاب والتوحش والهمجية وأنهم داعش غزة والقاعدة وغيرها من الأوصاف التي روج لها الإعلام الغربي بكثافة شديدة. وانضم إلى ذلك عنصر شرعنة رد الفعل عبر استعمال مفاهيم حق الدفاع عن النفس، وحق الأمن لمواطني إسرائيل، والدفاع عن المدنيين، ومكافحة الإرهاب واجتثاثه، وتبرير الممارسات الصهيونية تحت هذا الغطاء الذي نشره أيضا الخطاب الرسمي الغربي وآلته الإعلامية. طريقة هذه الثلاثة استبطنت عنصرا عنصريا خطيرا يتواءم مع العقيدة الصهيونية المتطرفة باستثنائية المواطن الصهيوني، وعدم مساواة الفلسطيني به. لقد حمل الخطاب الصهيوني والغربي فيروس “تبجيل اليهودي” بصورة واسعة؛ وظهر ذلك في الأسبوع الثاني في صور سجالية عبر المناظرات التي انبرى لها مدافعون عن الحق الفلسطيني، وعن ضرورة إيقاف المذبحة.

وقد امتلأ الخطاب العسكري الإسرائيلي بهذه الدعائية، وخاصة التبجيل الشديد للذات، والتحقير الشديد أيضا للشعب والحق الفلسطيني. وظهر ذلك في خطاب الإصرار على استمرار المذبحة؛ الأمر الذي لم يخفف منه وقوع مذابح مروعة مثل مذبحة المستشفى المعمداني (العربي الأهلي) مساء الثلاثاء 17 أكتوبر والذي راح ضحيته نحو 500 شهيد. فسرعان ما ألقى الخطاب الإسرائيلي التهمة على سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي للقول بأنها من أطلقت على المستشفى صاروخا بالخطأ. الدلالة الكبيرة تظهر في سرعة استجابة خطاب الحكومات الغربية –خاصة الحكومة الأمريكية- والإعلام الغربي لهذه الرواية صعبة التصديق، والعمل الريع على ترويجها. وكان موقف الرئيس الأمريكي في سرعة الترديد للرواية الإسرائيلية كاشفا وفاضحا، تلاه البنتاجون. ومن ثم اختلطت الحرب الدعائية المؤازرة للحرب بحملة استدعاء المساعدة العسكرية الغربية والاستجابة الواسعة لها أيضا.

استمر في الأسبوع الثاني استدعاء التعزيز العسكري الغربي لإسرائيل واستجابة القوى الغربية لها. وفي السادس عشر من أكتوبر، غادرت حاملة الطائرات الأمريكية أيزنهاور محطة نورفولك البحرية في فرجينيا لكي تنضم إلى الحاملة فورد لتكونان وسيلة ردع لأي جهة تفكر بالانضمام إلى الحرب. وقال الرئيس بايدن في مقابلة لبرنامج “60 دقيقة” على شبكة سي بي أس الأمريكية إن احتلال إسرائيل لقطاع غزة “سيكون خطاً جسيماً” وأضاف قائلاً: “أنا على ثقة بأن إسرائيل ستتصرف وفقاً لقوانين الحرب”. وقال بايدن أيضاً إنه يجب تصفية حماس وأن يكون هناك طريق يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية. وتبذل أطراف عدة مساعي دبلوماسية لفتح معبر رفح من أجل إدخال المساعدات الإنسانية للقطاع والسماح بمغادرة حملة الجنسيات الأجنبية. وعلى صعيد آخر قررت إسرائيل إجلاء سكان المناطق القريبة من الحدود مع لبنان تحسباً لاتساع المواجهات الدائرة على الحدود اللبنانية مع حزب الله[17].

  • تحضيرات الحرب البرية (الشاملة) وتأجيلها: ميزان القدرات والخطط

دخل الأسبوع الثاني من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وسط تصاعد كبير في أعداد القتلى والجرحى الفلسطينيين. وكشف معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، أنه منذ بداية الحرب، جرى تجنيد 360 ألف جندي إسرائيلي من جيش الاحتياط، وأن السلطات الإسرائيلية أخلت حتى اليوم العاشر نحو 78 ألف إسرائيلي من منازلهم خصوصاً في البلدات الإسرائيلية الموجودة في غلاف قطاع غزة، وأن الجيش الإسرائيلي هاجم أكثر من 4600 هدف في قطاع غزة، أدت إلى نزوح نحو مليون فلسطيني داخل القطاع. بينما أطلقت الفصائل الفلسطينية ما يزيد عن 6300 صاروخ من قطاع غزة على المستوطنات والبلدات والمدن الإسرائيلية، كما جرى إطلاق صاروخين من سوريا و19 من لبنان واثنين من غزة على شمال إسرائيل، وأن هذه الهجمات أسفرت عن مقتل 4 جنود إسرائيليين فقط. وحرصت بيانات الجيش الإسرائيلي على تجديد بيانات قتلاه جراء عملية طوفان الأقصى حتى وصلت نهاية الأسبوع الثاني 307 قتلى، بينما وصل عدد أسراه في القطاع 206 حتى يوم الجمعة 20 أكتوبر[18].

وفي مقابل القدرات العسكرية الإسرائيلية الكبيرة، قدر المعهد الإسرائيلي عدد مقاتلي كتائب القسام الذراع المسلحة لحركة حماس بأكثر من 15 ألفاً، مشيراً إلى أنها تمتلك ما بين 12- 15 ألف صاروخ. وقدر عدد مسلحي سرايا القدس الجناح المسلح لحركة الجهاد الإسلامي بنحو 6 آلاف وأنها تمتلك 6-8 آلاف صاروخ. وبلغت تقديرات المعهد بخصوص عدد مسلحي حزب الله اللبناني بنحو 50 ألفاً، مضيفاً أنه يمتلك ما بين 150-200 ألف صاروخ[19].

  • ميزان القوة العسكرية بين الطرفين

ويرى محللون عسكريون أنه رغم التفاوت الهائل في موازين القوى العسكرية بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، المسيطرة على قطاع غزة، إلا أن الهجوم المفاجئ “طوفان الأقصى” الذي نفذته الحركة يوم السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول، كشف عن مستوى جيد من التسليح والتدريب، وظهور أسلحة نوعية بيد حماس كما يرى مراقبون.

وجاء الرد الإسرائيلي سريعا بعملية “السيوف الحديدية” باستخدام أسلحة مدمرة ومتطورة سواءً من ترسانتها العسكرية أو من الترسانة الأمريكية، بعد أن قررت الولايات المتحدة تزويد إسرائيل بذخائر وأسلحة حديثة للرد على هجوم حماس.

أسلحة حماس

وخرجت الكثير من التحليلات عن نوعية الأسلحة التي استخدمتها حماس، والأخرى التي استخدمتها إسرائيل في الرد على الهجوم، وتأثيرها على الصراع مستقبلاً. كشفت حماس خلال عملية “طوفان الأقصى” عن أسلحة نوعية جديدة فاجأت الجميع – حتى الإسرائيليين أنفسهم، كان منها الطائرات المسيرة محلية الصنع، والطائرات الشراعية التي حملت مقاتلي حماس إلى مسافة 25 كيلومترا داخل البلدات الإسرائيلية، وقنابل حارقة دمرت آليات ودبابات إسرائيلية، بالإضافة إلى صواريخ جديدة بعيدة المدى وصلت تل أبيب، ومنظومة دفاع جوي محلية الصنع أطلقت عليها اسم “متبر 1”.

وأثيرت العديد من التساؤلات عن كيفية حصول الحركة على الأسلحة وتطويرها بهذا الشكل والتدريب عليها، رغم أنها محاصرة في منطقة مساحتها 350 كيلومتر مربع وتحت رقابة إسرائيلية صارمة وحصار بحري وجوي وبري. وقال علي بركة، رئيس العلاقات الوطنية لحماس في الخارج، لبي بي سي من لبنان: “لدينا مصانع محلية لكل شيء، للصواريخ التي يتراوح مداها 250 كم، و160 كم، و80 كم، و10 كم. لدينا مصانع لمدافع الهاون وقذائفها”. وأضاف: “لدينا مصانع للكلاشينكوف ورصاصها. نحن نصنع الرصاص في غزة”.

وكانت حماس تستغل المواجهات السابقة مع إسرائيل لتطوير أنظمة التسليح، خاصة الصواريخ والطائرات المسيرة. وأظهرت الصور المتداولة عن عملية “طوفان الأقصى” أسلحة قديمة ومتطورة مع مقاتلي حماس، منها رشاش سوفيتي قديم من طراز دوشكا، عيار 0.50، تم تعديله وتجهيزه ليناسب شاحنة صغيرة ويشغله شخص واحد.

ويصف الخبير العسكري اللواء صفوت الزيات، هذا السلاح بأنه “مصمم لاختراق المركبات والطائرات العسكرية خاصة المروحيات”. وحصلت حماس على كميات منه من عدة مصادر مختلفة مع آلاف البنادق الهجومية الروسية والصينية وحتى الكورية الشمالية، سواء من سوريا أو العراق أو ليبيا وتدفقت الأسلحة إلى غزة بعد سقوط نظم القذافي في ليبيا عبر شبكات التهريب، بحسب تقارير صحفية سابقة.

كما استخدمت حماس صواريخ كورنيت الروسية الصنع المضادة للدبابات، وقد أثبتت الصواريخ الموجهة بالليزر فعاليتها ضد دبابات ميركافا الإسرائيلية، وكذلك نظام صاروخي مضاد للدبابات يسمى بولسي BULSAE، وهو فعال في التصدي للآليات والمدرعات الإسرائيلية، حسبما أفاد موقع إنسايدر الأمريكي. وأشار الموقع أيضا إلى هناك بنادق القناصة بعيدة المدى، مثل بنادق Steyr HS.50 النمساوية، التي ظهرت مع مقاتلي حماس.

كما تحدثت تقارير غربية عن استخدام مقاتلي حماس أسلحة من صناعة كوريا الشمالية، حيث ظهر أحد أعضاء حماس يحمل ما يبدو أنه صاروخ من صناعة كوريا الشمالية، ونشرها حساب التدوين العسكري War Noir على موقع إكس، تويتر سابقًا. وتم التعرف على قاذفة الصواريخ التي يحملها أحد المقاتلين على أنها من كوريا الشمالية من طراز F-7 HE-Frag.. وبحسب الموقع فإن الفلسطينيين استخدموا تاريخياً أسلحة كورية شمالية، والتي ربما اشترتها إيران أو سوريا أولا، ثم هُرّبت إلى قطاع غزة الذي تحكمه حماس، للتحايل على الحصار الإسرائيلي المفروض منذ عام 2007. وقال بروس إي. بيكتول جونيور، ضابط مخابرات سابق في وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية للموقع، “السوريون يتعاملون مع حزب الله، والذي بدوره يتعامل مع حماس وينقل لها أسلحة ويدرب عناصرها”.

المسيرات: كانت المسيرات، سواءً القاذفة أو الانتحارية، من المفاجآت التي أظهرتها حماس في هذه المواجهة، ونشرت الحركة فيديو لعملية استهداف جنود إسرائيليين بقنبلة أسقطتها مسيرة محلية الصنع، وفيديو أخر لاستهداف أبراج مدافع رشاشة في موقع إسرائيلي على طول الحدود. وأوضح اللواء صفوت الزيات: ” يبدو أن الطائرات بدون طيار في هذا الفيديو تستهدف أجهزة الاستشعار التي تراقب السياج الذي يفصل غزة عن إسرائيل، وهو ما يعني التمهيد الذي سبق الهجوم”.. وقال: “حماس دخلت عصر منصات القتال غير المأهولة، وطورت مسيرات بتكنولوجيا بسيطة وجلبت مكوناتها بشكل لا يثير الشك ومن قطع غيار الدراجات النارية والسيارات، مثلما صنعت إيران مسيرات شاهد بإمكانيات بسيطة”. وكان هناك تطوير أيضا للمسيرات الانتحارية بحسب الزيات، وأظهر مقطع فيديو إطلاق هذه المسيرات من جانب مقاتلي حماس لتصيب أهدافها خارج حدود قطاع غزة. ويوضح اللواء سمير راغب، الخبير العسكري والمتخصص في التسليح، أن “حماس حصلت على التكنولوجيا من إيران، والمسيرات الفلسطينية من طراز “الزواري” تصنع من معادن بسيطة وفيبر جلاس”، وهي تكلفة رخيصة جدا وبإمكانيات بسيطة على حد قوله. وعن محركات الأجزاء المعقدة، قال راغب إن “المحركات بسيطة جدا وغير معقدة من الدراجات النارية أو بعض قطع غيار السيارات التي تسمح إسرائيل بدخولها”. وأضاف: “وبالنسبة للتوجيه فإنها تعتمد على أجهزة بسيطة موجودة في الأسواق وتباع للمستهلك العادي، بعضها يأتي من لعب الأطفال التي تنتجها الصين ودول أخرى، لكنها فعالة في المسيرات الانتحارية التي لا تحتاج لتطور كبير”.

الطائرات الشراعية: كشفت حماس عن سلاح نوعي هام وهو الطائرات الشراعية، التي نقلت مقاتلي حماس إلى داخل البلدات الإسرائيلية ومعهم الأسلحة والمتفجرات، وبحسب تقرير لشبكة سي إن إن الأمريكية، فمن الصعب أن يرصدها الردار الإسرائيلي لضعف بصمتها الردارية فضلا عن طيرانها على ارتفاعات منخفضة. وقالت الشبكة إنها تستخدم الرياح للدفع للأمام وللأعلى، أو المظلات التي تعمل بالطاقة، والتي تحتوي على محرك، وغالبا ما تُستخدم للترفيه، لكن حماس حولتها إلى سلاح فعال. وعن مدى فاعليتها يقول اللواء الزيات، إنها حققت عنصر المفاجأة والانتقال السريع لمقاتلي حماس من غزة إلى أهدافها بعيدا عن العوائق المختلفة مثل السياج العازل أو حقول الألغام، فضلا عن تحديد مواقع محددة للسيطرة عليها داخل البلدات الإسرائيلية لحين عبور بقية المقاتلين. ويقول بوليمروبولوس، ضابط عمليات كبير سابق في وكالة المخابرات المركزية والذي خدم في مجال مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط، إن الهجوم المعقد باستخدام مثل هذه الطائرات يشير إلى تورط إيراني، ويسلط الضوء على الفشل الاستخباري الهائل”. وأضاف بوليمروبولوس، لسي إن إن، أن استخدام الطائرات الشراعية مؤخرا يذكرنا بهجوم مماثل للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في إسرائيل عام 1987، وأسفر عن مقتل العديد من الجنود، وأن التدريب على استخدامها تم خارج غزة، ثم انتقل الخبراء لتدريب العناصر بالداخل.

الصواريخ: تمثل الصواريخ القوة الضاربة لحركة حماس في هذه الحرب، واستطاعت استخدام أنواع مطورة منها “عياش 250” الذي ضرب أهدافاً بعيدة المدى ووصل إلى تل أبيب، بجانب منظومات أخرى مطورة محليا تسببت في إرباك منظومات الدفاع الإسرائيلية. ويوضح اللواء الزيات أن حماس “تمتلك الآن ترسانة صواريخ متطورة، وعياش 250، الصاروخ الأحدث في منظومة تسليح حماس، وهو تطوير للصاروخ الإيراني فاتح 10، لكن بخبرة فلسطينية، واستخدم في ضرب مركز قيادة المنطقة الشمالية في صفد”. وعن كيفية تطوير حماس هذه المنظومة يقول الزيات: “منذ 2005 وانسحاب إسرائيل من غزة، لم تكن حماس تملك شيئا ثم طورت صواريخ القسام 1، 2، ولم يكن مداها يتجاوز 19 كيلومتر، ثم جاءت مواجهات عملية “الرصاص المصبوب” في 2009 وما بعدها من مواجهات وعمود السحاب في 2012 وحارس الأسوار في 2021، لتشهد تطوير منظومات تسليح أخرى”. في 2012 كشفت حماس لأول مرة عن صاروخ يقصف تل أبيب من طراز إم 75، ثم أر 160 (الرنتيسي) ومداه 160 كيلومتر، صاروخ أية 120 (العطار 120) وكل هذا التطوير تم بمساعدة إيران وحزب الله، لكن خبراء حماس تدربوا في الخارج، بحسب اللواء سمير راغب. وأكد راغب أن التطوير لم يشمل فقط منظومة الصواريخ بل أيضا “تقنيات استخدامها لإرباك إسرائيل”، حيث “يتم التصنيع والتوجيه من داخل الأنفاق، وهي ضخمة جدا وتستوعب منصات صواريخ وورش لتصنيعها”. ويضيف: “يتم القصف من تحت الأرض، عبر بوابات تفتح للإطلاق ثم تغلق مرة أخرى، وتتحرك المنصة تحت الأرض، ولا يمكن اكتشاف مكانها”.. وكشف اللواء الزيات عن “برنامج تطوير تعمل عليه حماس حاليا، لأنظمة تشويش واستشعار، ولو حدث ذلك فسوف يقلب موازين الحرب”، فالوصول لمنظومات الحرب الإلكترونية سوف يكون “تهديدا مباشرا لإسرائيل وقدرتها على كشف الردارات وخداعها وحتى ضربها”.

الدفاع الجوي: نشرت حماس فيديو لمنظومة صواريخ دفاع جوي “متبر 1” لاستهداف الطيران الإسرائيلي، وكذلك لمجموعة من عناصرها تحمل صواريخ على الكتف للدفاع الجوي، وعمليات التصدي لطيران إسرائيل عن طريق صواريخ محمولة على الكتف، وأخرى أُطلقت من منصات أرضية. ويقول الخبراء إن نظام متبر 1، نسخة من “شهاب ثاقب” الإيراني المطور على أساس منظومة “إتش كيو 7” الصينية، لكن صواريخ حماس من دون أي أجنحة للمناورة، مما يضعف قدرتها على الاستهداف، وهي مخصصة أكثر للمروحيات والمسيرات ولا تتعامل مع الأهداف المرتفعة والسريعة.

أسلحة إسرائيل

أخرجت إسرائيل كل ما بجعبتها في هذه المواجهة، واستخدمت أحدث ما في ترسانتها من قنابل وصواريخ موجهة وخارقة للتحصينات، والتي دمرت أكثر من 30 ألف منزل ومبنى سكني في غزة خلال خمسة أيام فقط، بحسب إحصاءات رسمية فلسطينية. ويقول الشاب خالد ماجد، من داخل غزة لبي بي سي، “منزلنا قصف ثلاث مرات من قبل وكان التدمير بسيطاً، ونعيد في كل مرة البناء والترميم، لكن هذه المرة المنزل إنهار تماما من قنبلة واحدة، ولم يعد له وجود، إنه أمر مرعب فعلا”.

وبحسب صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية، فإن إسرائيل استخدمت كل ما تملك في القصف المركز، من قنابل خارقة للحصون وصواريخ لضرب الأنفاق من نوع “هالبر”، حصلت عليها من الولايات المتحدة.

وحصل الجيش الإسرائيلي منذ سنوات على ” 750 قنبلة خارقة للحصون والأنفاق و3000 صاروخ من نوع “هالبر” المخصصة للمروحيات الهجومية، وآلاف القنابل الموجهة بنظام GPS بهدف تدمير البنية التحتية للقطاع، بالإضافة إلى 50 قنبلة خارقة للحصون من نوع BLU-113 و700 أخرى من نوع BLU-109.. ويوضح اللواء الزيات، أن إسرائيل تنوي هذه المرة إعادة غزة للوراء 50 عاماً، وإعادتها إلى عصر المخيمات، وهي تستخدم أحدث ما في الترسانة الأمريكية المفتوحة الآن أمامها.

منذ هجوم حماس على إسرائيل، قالت إدارة بايدن إنها تزود إسرائيل بمعدات لتحويل “القنابل الغبية” أو غير الموجهة إلى ذخائر موجهة بدقة بالإضافة إلى قنابل صغيرة القطر (SDBs) التي يقول الخبراء إنها أسلحة فعالة لضرب أهداف تحت الأرض، بحسب صحيفة واشنطن بوست الأمريكية. ويؤكد الزيات أن إسرائيل “تكثف من استخدام الأسلحة المحرمة دولياً مثل الفوسفور الأبيض واليورانيوم المنضب”، في عقاب جماعي لسكان غزة، كما تعتمد الأسلحة الإسرائيلية على مواد مشعة ومحظورة دوليا، لإلحاق أكبر قدر من الدمار بالمباني وإسقاط أكبر عدد من الضحايا. وقالت صحيفة واشنطن بوست، إن الإدارة الأمريكية أعطت الضوء الأخضر لبيع أسلحة دقيقة التوجيه لإسرائيل بقيمة 735 مليون دولار.

واختار الجيش الإسرائيلي زيادة ترسانته من قنابل GBU-28 الأمريكية، والمصممة لاختراق أهداف محصنة في أعماق الأرض، على الرغم من أن القنابل تترك حفراً هائلة ويمكن أن تلحق خسائر فادحة في صفوف المدنيين. وتستخدم إسرائيل أيضا طائرات إف 35 الشبح، وقال ضابط إسرائيلي لصحيفة يديعوت أحرنوت، إن قدرات إف 35 الشبح تم استخدامها لأول مرة في غزة للرصد الاستخباراتي لبعض الأهداف، وهي تستخدم بالأساس على الجبهة الشمالية، وفي مناطق بعيدة جدا عن حدود إسرائيل.

وعلى الرغم من أن إسرائيل تمتلك تكنولوجيا متطورة للكشف عن أنفاق حماس، فإن الشبكة تحت الأرض ستشكل تحديات خطيرة للجيش الإسرائيلي، وفقاً لبرادلي بومان، مدير مركز القوة العسكرية والسياسية في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات. وقال برادلي للصحيفة الإسرائيلية، إن “حماس ربما قامت بتخزين كميات كبيرة من الغذاء والماء والأسلحة والذخيرة في تلك الأنفاق، انتظاراً للمعركة الأرضية، لذلك فإن استخدام طائرات الشبح هام”.

واستخدمت إسرائيل أيضا قنابل “جدام” الذكية، وتستخدم القنابل الذكية التي تسمى “جدام” JDAM بكثرة خلال غاراتها العنيفة التي تشنها على قطاع غزة، والتي خلّفت دمارا كبيرا، وهي من قنابل الهجوم المباشر المشترك عالية التدمير التي تقدمها الولايات المتحدة دعما لإسرائيل. وتعمل قنابل جدام على تحويل القنابل غير الموجهة إلى سلاح “ذكي” دقيق، إذ تستخدمها لضرب أهداف في غزة من الجو، ويصل مداها إلى 28 كيلومترا، ويتراوح وزنها بين 558 رطلا و 2000 رطل، ويمكن إطلاقها من ارتفاع 13.5 كيلومتر، أما توجيهها فيتم بالقمر الصناعي ويمكنها خرق التحصينات.

  • أسلحة الاجتياح البري:

تستعد إسرائيل للقيام بعملية برية في قطاع غزة، لكنها لم تكشف عن موعدها حتى الآن، ويجري التنسيق بينها وبين الولايات المتحدة لوضع خطة الاجتياح والتعامل مع الأسرى لدى حماس ومنهم أمريكيين.

وعن العملية البرية وأسلحتها، يقول اللواء الزيات إن “الجيش الإسرائيلي غير معتاد على حرب المدن، وينتظر مساعدات أمريكية وغربية تساعده في القتال في المناطق السكنية وفي الأنفاق”. وأضاف أن من هذه الأسلحة “معدات الاستشعار والردارات البشرية وأجهزة التصوير الحراري، وطائرات مسيرة دقيقة الحجم، واسلحة تساعدها في القتال داخل المنازل، خوفا من وقوع مفاجآت مثل حرب يوليو/تموز 2007 مع حزب الله”.. ومن الأسلحة الرئيسية التي تعتمد عليها إسرائيل حاليا سواء في القصف الجوي أو الأرضي، أو في عمليات الاقتحام، دبابات ميركافا، وهي دبابة القتال الرئيسية التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، وفقا لصحيفة تايمز أوف إسرائيل. وقالت الصحيفة إن النموذج المرشح للاستخدام بقوة في غزة Mark 4، لأنه الأفضل حاليا من حيث التكنولوجيا والتسليح والتدريع ويمكنه التصدي لهجمات حماس وقاذفاتها أثناء الاقتحام الأرضي. هذا بالإضافة إلى ناقلات الجنود المدرعة، أو APCs، وهي أخف بشكل عام من الدبابات القتالية الرئيسية، وكذلك ناقلة الجنود المدرعة إيتان الجديدة، ذات عجلات 8 × 8 متعددة الأغراض، وتهدف إلى استبدال ناقلات الجنود المدرعة M113 الأقدم التي استخدمها الجيش الإسرائيلي سابقًا، بحسب مدونة Army Technology على موقع إكس. وتتمتع “إيتان” بقدرات عالية من القوة النارية والقدرة على الحركة، بما في ذلك في أنواع مختلفة من التضاريس.

وتتلقى إسرائيل أيضًا مساعدات عسكرية من دول غربية أخرى. وفي ألمانيا، وافق المسؤولون على استخدام طائرتين بدون طيار من طراز Heron TP في غزة من أصل خمس طائرات مؤجرة للبلاد، حسبما ذكرت رويترز[20].

قال المتحدث باسم البنتاغون باتريك رايدر إن قوات أمريكية خاصة معنية بتحرير الرهائن، وصلت إلى إسرائيل، وفقا لما نقلت هيئة البث الرسمية الإسرائيلية. وبحسب الهيئة الإسرائيلية فقد أضاف رايدر أن إرسال حاملة طائرات أمريكية إلى شرق المتوسط، تُعد “رسالة ردع لحزب الله وإيران لعدم التدخل في الحرب”، مشيراً إلى أن لدى هذه الحاملة “قدرات تجسس ورصد وقدرات على الرد”. وذكر أن واشنطن ستترك في المنطقة مقاتلات F-35، وستعزز مقاتلات F-16 وF-15 لضمان إتاحة مختلف الخيارات، وفق تعبيره.

ما هي قوة دلتا؟ تعد “قوة دلتا”، وحدة عمليات خاصة تابعة للجيش الأمريكي، تركز بشكل أساسي على مهمة تحرير الرهائن ومكافحة “العمليات الإرهابية”، وتحاط معظم عملياتها بالسرية. نشأت هذه الوحدة عام 1977 على يد الكولونيل تشارلي بيكويث، الذي رأى الحاجة إلى قوة هجومية دقيقة داخل الجيش، بعد عمله مع الخدمة الجوية الخاصة البريطانية في السبعينيات، في إطار تبادل الخبرات العسكرية بين واشنطن ولندن، ولتكون على طراز الخدمة الجوية البريطانية الخاصة الشهيرة (SAS)[21].

ومن ناحية أخرى، كشف تقرير صحافي أن الجيش الإسرائيلي يستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي لاختيار أهداف الضربات الجوية وتنظيم الشؤون اللوجيستية في العمليات العسكرية المميتة التي ينفذها بفلسطين وضد إيران. ونقل التقرير الذي نشرته وكالة «بلومبرغ» للأنباء، عن مسؤولين عسكريين قولهم إن الجيش يستخدم الآن نظام توصية بالذكاء الاصطناعي يمكنه معالجة كميات هائلة من البيانات لتحديد أهداف للضربات الجوية، كما يستخدم نموذجاً يسمى «Fire Factory»، يعتمد على هذه البيانات حول الأهداف لاقتراح جدول زمني للقيام بالضربات وحساب أحمال الذخيرة، وتحديد الأولويات والضربات التي ستنفذها الطائرات والمسيرات. وفي حين أن كلا النظامين يخضع للإشراف من قبل مشغلين بشريين يقومون بفحص الأهداف الفردية وخطط الغارات الجوية والموافقة عليها، وفقاً لمسؤول في الجيش الإسرائيلي، لا تزال التكنولوجيا غير خاضعة لأي تنظيم على المستوى الدولي أو الحكومي. وقال الكولونيل أوري، الذي يرأس وحدة التحول الرقمي بالجيش والذي تحدث في مقر الجيش الإسرائيلي في تل أبيب، شريطة الكشف عن اسمه الأول فقط: «ما كان يستغرق ساعات للتخطيط له الآن يستغرق دقائق، مع بضع دقائق أخرى تخضع فيها البيانات للمراجعة البشرية». وشدد المسؤولون العسكريون الذين تحدثوا إلى «بلومبرغ» على أن النظام مصمم خصيصاً لـ«الحروب الشاملة». وفيما يمكن أن تتجاوز أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة القدرات البشرية وقد تساعد الجيوش في تقليل الخسائر، إلا أن الاعتماد على هذه الأنظمة المستقلة قد يؤدي إلى عواقب مميتة، إذا حدث خطأ في حساباتها، وفقاً للخبراء. ولا تزال تفاصيل استخدام الجيش الإسرائيلي للذكاء الاصطناعي سرية إلى حد كبير، لكن التصريحات الصادرة عن المسؤولين العسكريين تشير إلى أن الجيش اكتسب خبرة في استخدام هذه الأنظمة المثيرة للجدل، خصوصاً في قطاع غزة، حيث تقوم إسرائيل بشكل متكرر بشن غارات جوية[22].

وعندما دخلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يومها العاشر (الأحد 15 أكتوبر) وسط التصاعد الكبير في أعداد القتلى والجرحى في غزة، كشف معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب في إسرائيل، أنه -ومنذ بداية الحرب جرى تجنيد 360 ألف جندي إسرائيلي من جيش الاحتياط، وأن السلطات الإسرائيلية أخلت نحو 78 ألف إسرائيلي من منازلهم خصوصًا في البلدات الإسرائيلية الموجودة في غلاف قطاع غز، وأن الجيش الإسرائيلي هاجم أكثر من 4600 هدف في قطاع غزة، ما أدى إلى نزوح نحو مليون فلسطيني داخل القطاع، وأن الفصائل الفلسطينية أطلقت ما يزيد عن 6300 صاروخ من قطاع غزة على المستوطنات والبلدات والمدن الإسرائيلية، كما جرى إطلاق صاروخين من سوريا و19 من لبنان واثنين من غزة على شمال إسرائيل، وأن هذه الهجمات أسفرت عن مقتل 4 جنود إسرائيليين. وقدر المعهد الإسرائيلي عدد مقاتلي كتائب القسام الذراع المسلحة لحركة حماس بأكثر من 15 ألفاً، مشيراً إلى أنها تمتلك ما بين 12- 15 ألف صاروخ. وقدر عدد مسلحي سرايا القدس الجناح المسلح لحركة الجهاد الإسلامي بنحو 6 آلاف وأنها تمتلك 6-8 آلاف صاروخ. وبلغت تقديرات المعهد بخصوص عدد مسلحي حزب الله اللبناني بنحو 50 ألفاً، مضيفاً أنه يمتلك ما بين 150-200 ألف صاروخ[23].

  • خطة العدو للحرب البرية

خطة إسرائيلية أولية للحرب وما بعدها (تقرير)[24]

كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” في تقرير نشرته الخميس، “الخطوط العريضة” لخطة الاجتياح البري الذي تعتزم إسرائيل شنّه في قطاع غزة، مشيرة إلى أنها تتكون من 5 فرضيات، لتحقيق 5 أهداف ميدانية و5 أهداف استراتيجية يتم تحقيقها على مراحل، تبدأ بالعمليات الجارية الآن، وتنتهي بترتيبات متوسطة الأجل تمكن الجيش الإسرائيلي من مغادرة قطاع غزة، فيما يمكن تلخيصه على النحو الآتي:

  • الفرضيات الخمس:
  • قدرات حماس والجهاد تشكل تهديداً مباشراً على الإسرائيليين (على بعد مئات الأمتار من شمال النقب وعلى بعد 70 كيلومتراً من تل أبيب)؛ لذا لابد من استعادة 3 مكونات مهمة للأمن القومي الإسرائيلي: الردع الاستراتيجي الذي تآكل بشدة في 7 أكتوبر، والأمن المادي الملموس في الجنوب، واستعادة شعور الإسرائيليين بالأمن والثقة في القيادة السياسية والمؤسسة الأمنية.
  • أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، معظمهم يريدون أن يعيشوا حياة طبيعية؛ آمنة وحرة، يحتاجون إلى الخدمات المدنية (الصحة والتعليم والمياه والكهرباء والصرف الصحي العام)، ولا يحصلون على الحد الأدنى منها؛ بسبب حركة حماس التي تحكم القطاع.
  • حماس والجهاد وغيرها من الفصائل الفلسطينية تهدد بذلك قدرة إسرائيل وسكان قطاع غزة على العيش حياة طبيعية. فلابد من إزالة نظام حماس وتدمير قدراته وبنيته التحتية العسكرية وقدرات التنظيمات الأخرى على الأرض، والتأكد من أنها لا تستطيع إعادة تأهيل قدراتها العسكرية والحكومية أو بناء بنية تحتية جديدة تحت ستار أو تشكيلات جديدة.
  • يوجد احتمال معقول بأن ينضم حزب الله -وربما إيران وعناصر أخرى- إلى الحرب؛ ليفتحوا جبهة أخرى ضد إسرائيل في الشمال وربما أيضاً في الشمال الشرقي. فلابد من كسب دعم الولايات المتحدة سياسيا ولوجيستيا ودعائيا، وربما حتى دعما عملياتيا لاعتراض الصواريخ والقذائف.
  • لا توجد تسوية قابلة للتطبيق مستقرة طويلة الأجل للصراع النشط على حدود غزة، أو للصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل عام، وفكرة “دولتان لشعبين” في ظل الظروف الحالية في الشرق الأوسط، مجرد شعار وليست خطة سياسية يمكن تنفيذها في المستقبل المنظور. والسبب عدم وجود سبيل للقضاء على فكرة “الإسلام الأصولي القاتل”؛ خاصة جماعة الإخوان المسلمين وحماس والجهاد الإسلامي.
  • خمسة أهداف ميدانية:
  • في شمال قطاع غزة: تنفيذ عملية على غرار “الدرع الواقي”: تشمل الهجوم في شمال القطاع من أجل السيطرة العسكرية على القطاع؛ تمهيداً لجمع معلومات استخباراتية وتنفيذها فورياً على الأرض؛ من خلال القبض على عناصر من الفصائل الفلسطينية وانتزاع معلومات منها عن مواقع أو مخابئ تابعة لها، ومهاجمتها فوراً. ويستهدف ذلك بالدرجة الأولى وقف إطلاق الصواريخ من القطاع باتجاه البلدات والمدن الإسرائيلية، بالإضافة إلى اجتثاث قيادات حماس والجهاد وتدمير قدراتهما العسكرية والتنظيمية، لا سيما في شمال القطاع، حيث يتمركز مقاتلو الحركتين وبنيتهما التحتية العسكرية ومركز عملياتهما. وفي حالة تحقق ذلك، ستكون حماس قد فقدت “عاصمتها”، بحسب تعبير التقرير.
  • في جنوب القطاع: تحقيق نفس أغراض الهدف الأول في جنوب القطاع: باستخدام أساليب مختلفة؛ استنادًا إلى معلومات استخباراتية دقيقة، يقول التقرير إنها “موجودة بالفعل لدى جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) والاستخبارات العسكرية”، أو معلومات استخباراتية يتم جمعها أثناء القتال.
  • في شمال الأرض المحلتة (إسرائيل): يواصل جيش العدو الاشتباك مع حزب الله والفلسطينيين الذين يعملون من الأراضي اللبنانية، وربما أيضاً مع جماعات مسلحة من سوريا والعراق، مع مراعاة السعي لإبقاء تلك الاشتباكات (دون مستوى الحرب وحصرها في المناطق الحدودية)، مع مواصلة الجيش الحفاظ على استعداده لحرب واسعة النطاق في لبنان؛ بما في ذلك المناورات البرية، إذا شن حزب الله حربًا شاملة. وتفضل دولة الاحتلال تركيز أفضل قواتها ومواردها على القتال في غزة من أجل تحقيق إنجازات سريعة هناك، بينما سيؤدي دخول حزب الله للمعركة إلى استمرار القتال في غزة لفترة أطول.
  • العمل مع الولايات المتحدة والأمم المتحدة على مستوى المساعدات الإنسانية للحفاظ على زخم الدعم السياسي واللوجستي الذي تقدمه الولايات المتحدة وحلفاؤها للعملية العسكرية الإسرائيلية، على أن يتم ذلك بالتوازي مع القتال في شمال وجنوب قطاع غزة. يتحقق ذلك عبر إتاحة ممرات إنسانية ومناطق ملاذ آمن للفلسطينيين الذين فروا من منازلهم في غزة، على أن تزود الجهات الفاعلة الدولية والدول العربية هذه المناطق – تحت إشراف الجيش الإسرائيلي والأمم المتحدة – بالضروريات الأساسية، بما في ذلك المياه والغذاء والدواء والخدمات الأساسية مثل الكهرباء (المولدات) والسكن المؤقت (الخيام).
  • وفقاً للنتائج التي تتحقق على الأرض في الأسابيع الأولى من القتال، تعمل إسرائيل مع الولايات المتحدة للتوصل إلى قرارات بشأن “خطة خروج/انسحاب” مقبولة والشروع في الخطوات السياسية اللازمة لتحقيقها وتنفيذها. وتضمن خطة الانسحاب من قطاع غزة وإجراءات الترتيب على الأرض بعد المغادرة تحقيق الأهداف الاستراتيجية المرجوة لإسرائيل والولايات المتحدة على المدى المتوسط، أي لفترة تتراوح بين 5 و10 سنوات.

ج) خمسة أهداف استراتيجية:

  • “أن يكون القطاع بأكمله منزوع السلاح، مع وضع ترتيبات وآليات لضمان ذلك”.
  • تعمل تل أبيب على أن تصبح الإدارة في غزة “مدنية- مهنية، وليست أيديولوجية- دينية، أو سياسية”، وأن يقتصر اهتمامها وتوجيهاتها على ما سماه التقرير بـ”رفاهية الفلسطينيين”. هذه الإدارة أو الحكومة التي ستتولى شئون غزة ستكتسب سلطتها من قاعدة شرعية دولية واسعة. وستعتمد آلية الحكومة المدنية، بالإضافة إلى الشرطة المحلية، على “قوة دولية” لفرض القانون وتولي ترتيبات إنهاء القتال. وستحصل غزة في ضوء ذلك على ميناء بمياه عميقة تحت إشراف أمني، مع السماح كذلك بحركة سفر واستقبال سائحين من وإلى قبرص.
  • إنشاء إسرائيل نظام إنذار ودفاع متكامل على الحدود، مع ترتيبات أمن تشمل منطقة آمنة بعرض يتراوح بين كيلومتر واحد و3 كيلومترات، لن يكون مسموحاً لسكان غزة بدخولها إلا بموجب تصريح خاص من إسرائيل، مع التنبيه بأن من يدخل هذه المنطقة يعرض حياته للخطر.
  • عدم بقاء جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة لفترة أطول من المطلوب لتحقيق أهدافه الميدانية الفورية وتمكين حكومة بديلة في القطاع. ومع ذلك، سيحتفظ الجيش الإسرائيلي والشاباك بحق ما يسمى بـ”المطاردة الساخنة” لإحباط أي هجمات أو استعدادات قتالية بعد الخروج من غزة.
  • تأخذ إسرائيل بعين الاعتبار المصالح والاعتبارات الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة، والاعتبارات السياسية الداخلية والمصالح الدينية والاستراتيجية لدول المنطقة التي ترتبط باتفاقيات سلام وتطبيع وعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل.

خاتمة:

شهد الأسبوع الثاني استمرار وتصاعد الجدل بين المسارات الأربع للصراع بين العسكري والسياسي والإعلامي والإنساني؛ لكنه أفرز مجالات أخرى من المدني، والتواصلي عبر الإعلام الجديد، والعالمي، والقانوني ودور الأمم لمتحدة والمنظمات الدولية والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي.

يصر العدو على إزاحة العسكري الانتقامي الأعمي للسياسي الإقليمي والدولي، واحتقار الرأي العام الدولي، وإرجاء الحراك الداخلي وإفشال قررات مجلس الأمن، وعدم الاستماع للمنظمات الدولية الحقوقية والقضائية والإغاثية ولا للأمين العام للأمم المتحدة (كأنه وفريقه لا يقولون شيئا)، ورغم ضعف قدرات المقاومة في هذا الجدل وشبكاته، وخذلان أصدقائها لها، فإن الأمور تمضي تدافعية لا على وتيرة واحدة كما يريدها أحد الطرفين. ولله عاقبة الأمور.

هوامش

[1] محمد نعيم، كواليس العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، الهيئة الوطنية للإعلام، 20 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي:https://cutt.us/b7dT2

[2] مقتل أحد قادة حماس في ضربة جوية إسرائيلية، skynews عربية، 19 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي:https://cutt.us/DeV2p

[3] واشنطن بوست، فاينشيال تايمز، نيوريوك تايمز، موقع سي إن إن، موقع سكاي نيوز، (وكان هذا التحذير قد صدر عن الجيش الإسرائيلي منذ الخميس 12 أكتوبر 2023.

[4] الأردن يقرر عدم إقامة القمة الرباعية مع بايدن، skynews عربية، 18 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي :https://cutt.us/l6mdO

[5] السيسي لوزير خارجية أمريكا: المتطرفون قتلوا السادات ورابين..واليهود لم يتعرضوا لأي قمع أو استهداف في العالم العربي والإسلامي، بالعربية CNN،  15 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ma50Z

[6]  مؤتمر صحفي للرئيس السيسي مع المستشار الألماني أولاف شولتس بمقر رئاسة الجمهورية، eXtra news، 18 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Z3GZS

[7] “العفو الدولية” تحقق في قصف إسرائيل قطاع غزة بالفسفور الأبيض، جسور بوست، 14 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/1pgad

[8] Daniel Thomas, Jim Pickard and Heba. Six BBC reporters taken off air as probe launched over pro-Palestine tweets, Financial Times, OCTOBER 16 2023, available at: https://cutt.us/tUfAw

[9] عرب ومسلمون أمريكيون يخشون وصمهم مثلما حدث بعد 11 سبتمبر، جسور بوست، 18 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/fssLS

[10]  محم وتد، بايدن في إسرائيل.. دعم مطلق وتدخل لمنع نشوب حرب إقليمية، الجزيرة، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/IVcGk

[11] المسلمون واليهود يخفون هوياتهم بعد تزايد الاسلاموفوبيا ومعاداة السامية فى بريطانيا، اليوم السابع، 18 أكتوبر 2023، https://cutt.us/XeGtv

[12]  سوناك: “أنا في إسرائيل الأمة التي تعيش في حالة حزن وسأقف معكم ضد شر الإرهاب إلى الأبد”، عرب لندن، 19 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/xhasu

[13] من جهة لكي يمتص غضب شعبه، ومن جهة ثانية لينقل المشهد من صورة هزيمته النكراء إلى صورة مأساة يبدو فيها قويا قاسيا وعنيفا، وليمهد ثالثا لاستعادة قوة الردع المعنوية التي ضربتها طوفان الأقصى في مقتل، ومن ثم يعطي لنفسه الوقت والأجواء للانتقال لأهداف أعلى.

[14] خطة المقاومة ليست واضحة حتى الآن، وخطاباتها وعدت بالمفاجآت، لكن تطور هذه الخطابات وتطور الممارسة لا يشي بشيء خاصة أمام هجوم كاسح من العدو. ومفهوم “وحدة الساحات” يبدو حتى اللحظة ضئيل التحقيق بالنظر للسلوك الإيراني والصراع على الجبهة الشمالية وفي الداخل المحتل وخاصة في الضفة.

[15] “إنشاء نظام أمني جديد”.. غالانت يكشف أهداف العملية العسكرية الإسرائيلية بغزة. على موقع روسيا اليوم بالعربية، تاريخ النشر:20.10.2023 | 12:33. على الرابط: https://cutt.us/V70fI

[16] https://twitter.com/g4_p6/status/1715446495661482176

[17]  ضرار عمير، ما الذي جرى في عشرة أيام من الحرب بين إسرائيل وحماس؟، بي بي سي عربي، 16 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/aEao5

[18]أهداف وقدرات عسكرية.. معهد إسرائيلي يرصد إحصائيات الحرب على غزة، موقع TRT العربي، 16 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي:https://cutt.us/1f5V0

[19] المرجع السابق نفسه.

[20] عبد المنعم حلاوة،ما هي الأسلحة التي تستخدمها حماس وإسرائيل في الحرب الحالية، وتأثيرها على الصراع مستقبلا؟، بي بي سي عربي،

[21] ما الذي نعرفه عن قوة تحرير الرهائن الأمريكية التي “وصلت إسرائيل”؟، بي بي سي عربي ، 10 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Fbkzb

[22] تقرير: إسرائيل تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي في عملياتها العسكرية المميتة، الشرق الأوسط، 16 يوليو 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/We08t

[23] أهداف وقدرات عسكرية.. معهد إسرائيلي يرصد إحصائيات الحرب على غزة، TRTعربي، 16 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/dPDWW

[24] خطة إسرائيل لاجتياح غزة براً.. 10 أهداف ميدانية واستراتيجية، الشرق، 20أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/FVK2x

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى