عن مجتمعات السجون الموازية!

السجون المصرية تشهد تكدسا كبيرا وسط انتشار فيروس كورونا

اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي في الأسابيع القليلة الماضية موجة (تريند) من الحنين إلى الماضي، تُرجمت على هيئة  مجموعات  مثّلت الحنين إلى الماضي عبر معايشته، حملت معظمها عبارة “we pretend…”  أي نحن نتظاهر أننا في..”.

اتسعت دائرة “التريند” حتى شملت فترات زمنية بعينها، وأحداث معينة، وأماكن، كان أكثرها غرابة مجموعة طبّقت الفكرة على “السجون المصرية” من خلال إنشاء مجموعة على فيسبوك.

 لم يكن الأمر مجرد مزحة أو تخيّل من أناس لم يدخلوا السجن أبدًا، بل كان الأمر من شباب مصري عاش فترات وربما لسنوات داخل السجون المصرية، بعد الانقلاب العسكري المشؤوم في يوليو ٢٠١٣ ،بسبب مواقفهم من النظام السياسي السلطوي.

وأرادوا بهذه المجموعة استرجاع الذكريات والمواقف و”الحياة الأخرى” التي عاشها ويعيشها المعتقلون السياسيون داخل السجون المصرية.
 لعلّ الفكرة جاءت في رِكاب “التريند” الذي اجتاح مواقع التواصل الاجتماعي في فراغ بدايات الحجر المنزلي الذي أثار إبداع الكثيرين، وربما ذكّر الحجر عددًا من المعتقلين السابقين بالسجن؛ وقارن الكثيرون بين الحجر الإلزامي وما عايشوه  داخل السجن.

ولكن فكرة استدعاء السجن مرة أخرى بكل ما يحمله من تفاصيل كانت صادمة بقدر إبداعها وخروجها عن مألوف الأفكار، ببساطة هي دليل على أن السجن لم يفارق المعتقلين برغم مفارقتهم الجسدية له.

وأن السجن له ما بعده، له مجتمع متشابك ومعقّد ومركّب بطريقة يصعب تفكيكها دون بحث علمي يتم التعايش فيه مع المسألة السجنية برمتها، التي لا تحدد مكانيًا بمجتمع السجن نفسه.

وإنما تزداد تركيبًا وتعقيدًا لتشمل ” حياة ما بعد السجن post prison life”، ولست أعني ما يبقى منه في الذاكرة أو عدم القدرة علي الخروج من نمط معيشته- على طريقة فيلم سوق المتعة مثلًا.

بل نمط الحياة الأخرى -المفروضة في بعض الأحيان- في مرحلة ما بعد الخروج من المعتقل، إذن المسآلة السجنية ليست محكومة بإطار مكاني “السجون على اختلاف أنواعها وأشكالها” تنحصر الدراسة فيه،  بل متضمنة لفضاء حياة ما بعد السجن.

  فكرة استدعاء السجن مرة أخرى بكل ما يحمله من تفاصيل كانت صادمة بقدر إبداعها وخروجها عن مألوف الأفكار، ببساطة هي دليل على أن السجن لم يفارق المعتقلين برغم مفارقتهم الجسدية له

 

جسّدت هذه المجموعة الفيسبوكية نموذجًا لما يمكن أن يمثّل له مجتمع ما بعد السجن، أو بالأحرى السجون الموازية، التي يقبع فيها المعتقلون -السابقون- وسط المجتمع المصري، حيث عدم الأمان الذي يعيشه المعتقلون السياسيون بعد العودة إلى الحياة الطبيعية، وهو ما دفع المجموعة إلى الإنغلاق والانزواء بما أتاحته لها أدوات الحداثة، تمامًا مثلما ينزوي المعتقل في مجتمعه الموازي “مجتمع المعتقلين السابقين”.

ويبقى محصورًا فيه لمواجهة المجتمع، بإدعاء فضيلة مجتمع السجن الذي يتعاضد فيه المعتقلون السياسيون في مواجهة خصمهم الواضح “السجّان” ويعيشون مغامرات يومية لتحقيق أكثر المكتسبات الإنسانية، أو العلاقة بين المعتقلين السياسيين والسجناء الجنائيين التي أنتجت نمطًا جديدًا من حياة السجناء (السياسيين والجنائيين)، وهو ما رأيته متحققًا ومنعكسًا بالفعل في هذه المجموعة الافتراضية.

يمثل المعتقلون السياسيون السابقون شريحة كبيرة متنامية في المجتمع المصري، منذ حملات الاعتقال الشنيعة التي شنها النظام المصري في ٢٠١٣ والتي لازالت مستمرة إلى اليوم.

وقد تنوعت واختلفت الشرائح السِنيّة والفئوية والأيديولوجية التي طالها الاعتقال السياسي، الذي أنتج بعد ذلك مجتمع “داخل” السجن، متشابك ومتباين إلى الدرجة التي أنتجت من بين هذه التباينات تفاعلات علـي المستويات الفكرية والأيديولوجية -لا تسعفنا هذه المساحة للحديث عنها باستفاضة.

يعيشه المعتقلون السابقون كمواطنين من الدرجة الثانية حيث يتم منعهم من مزاولة بعض الأنشطة ناهيك عن الملاحقات الأمنية وما يشبه “الوصمة” المجتمعية، التي تدفع المعتقلين السابقين إلي الانزواء بعيدًا عن المجتمع الذي لا يكفل لهم إدماجًا حقيقيًا.

أنتجت بعد ذلك نمطًا جديدً من الأفكار والتيارات السياسية والانشقاقات التنظيمية، وهو ما انتقل بدوره إلى مجتمع آخر “سجني” لكن خارج السجن ذاته يواجه فيه المعتقلون السياسيون السابقون، عقبة الاندماج في المجتمع! 

ليس فقط بدعوي فضيلة مجتمع السجن الذي عاشوا فيه فترات طويلة، بل لصعوبة هذا الاندماج لما يحمله السجن من آثار نفسية -وربما في بعض الأحيان قانونية- يتسبب فيها المجتمع الذي يتخوف من  التعامل مع المعتقلين السياسيين السابقين.

وهو بذلك يخضع لأهداف النظام السياسي الذي قسّم المجتمع المصري إلى فريقين -إما مع أو ضد-، ولا يوجد ما يكفل إدماج المعتقلين السابقين مرة أخرى في الحياة الاجتماعية -على الأقل-، في ظل الاخفاء القسري بحق المجتمع المدني المنوط به القيام بهذا الدور.

وغياب أي مبادرات من “الدولة” قد تحتوي الخارجين من المعتقلات السياسية -كما فعل نظام مبارك مع الجماعة الإسلامية في بدايات القرن الحالي- ، بل قد يستفيد النظام السياسي من أي جنوح نحو التطرف بتوظيفه في ادعاءاته بمحاربة التطرف والإرهاب التي يعيش عليها النظام داخليًا وخارجيًا، بل ويسعى في إنتاجها.

يعيش المعتقلون السياسيون السابقون في مجتمعاتهم الخاصة بعد أن حملوا ما لا يمكن إزاحته عن كاهلهم -صفة المعتقل السابق- في مواجهة المجتمع الكبير الذي لا يدمجهم إلا شكليًا فقط.

ويعيش فيه المعتقلون السابقون مواطنين من الدرجة الثانية حيث يتم منعهم من مزاولة بعض الأنشطة دعك  عن الملاحقات الأمنية وما يشبه “الوصمة” المجتمعية، التي تدفع المعتقلين السابقين إلي الانزواء في مجتمعاتهم الخاصة بعيدًا عن المجتمع الذي لا يكفل لهم إدماجًا حقيقيًا.

مُثّل هذا الانزواء بكل واقعية مجموعة الفيسبوك التي جمعت مئات من المعتقلين السياسيين السابقين وقد حرصوا -لأسباب أمنية وأخرى متعقلة بالخصوصية- ألا يكون بينهم دخيل لم يعش تجربة السجن يومًا ويدري كيف يدور هذا المجتمع الموازي.

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها