سد النهضة: تعهدات مصرية لتبديل الموقف السوداني

سد النهضة: تعهدات مصرية لتبديل الموقف السوداني

11 مارس 2020
يؤيد السودان اتفاق النهضة بنسبة كبيرة(أشرف الشاذلي/فرانس برس)
+ الخط -

جاءت زيارة رئيس المخابرات المصرية اللواء عباس كامل إلى العاصمة السودانية الخرطوم، يوم الاثنين الماضي، لتؤكد بدء تحرك مصر علناً في مسار مغازلة السودان بغية دفعه للتوقيع على اتفاق ملء وتشغيل سد النهضة والانضمام إليها في مطالبتها إثيوبيا بالتوقيع، حتى لا تبقى في موقعها طرفاً وحيداً مؤيداً للاتفاق، الذي سبق أن أعلن السودان موافقته على 90 في المائة من بنوده، بينما رفضته إثيوبيا بالكامل. وقد التقى كامل في زيارته، كلا من رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان والنائب الأول لرئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) المعروف بعلاقته الوطيدة بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وبعد اللقاءات، أبرز البيان الصادر عن المخابرات المصرية "التأكيد على دعم مصر التام للسلطة الانتقالية في السودان، والحرص على المساعدة في تلبية طموحات شعبه، وتضامن مصر، حكومة وشعباً مع الشعب السوداني في مواجهة الإرهاب، وبحث عدداً من القضايا الثنائية ذات الاهتمام المشترك على الصعيدين الإقليمي والدولي".

وأضاف البيان أن زيارة كامل للسودان "أول رسالة تضامن مع الشعب السوداني وقيادته في مواجهة الإرهاب عقب الحادث الإرهابي الذي تعرض له رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك"، ولم يشر من قريب أو بعيد لقضية سد النهضة، التي تمارس فيها مصر ضغوطاً كبيرة لتغيير موقف السودان رسمياً، الأمر الذي لا يلقى قبولاً واسعاً داخل مجلس السيادة، ولا يقبل به بعض الوزراء الضالعين في المفاوضات. وذكرت مصادر دبلوماسية مصرية أن القاهرة تريد بأي شكل في الوقت الحالي تغيير الموقف الرسمي السوداني للإعلان عن قبول التوقيع، لإظهار إثيوبيا كطرف منقلب على المفاوضات، مما يُمكّن المصريين من فتح خطوط اتصالات دولية مع الدول الفاعلة في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، لاجتذاب تأييد دولي ومؤسسي لموقفها المطالب بعدم البدء في الملء الأول لخزان السد في يوليو/تموز المقبل إلا بعد الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل. وأضافت المصادر أن مصر قطعت العديد من التعهدات لمساعدة مجلس السيادة السوداني، على مستوى الدعم الفني والمالي في مجالات الزراعة والنقل والطاقة، وأنها ستتوسط لدى بعض الدول لجذب مزيد من المساعدات والقروض.

وأكد هذا ما ذكرته مصادر حكومية أخرى سابقاً لـ"العربي الجديد" قبل زيارة كامل للخرطوم، بشأن التواصل مع عدد من الجهات الدولية المانحة في أوروبا ووزارة الخزانة الأميركية، لدعم موقف السودان في المطالبة بالحصول على عدد من القروض التنموية وإسقاط ديون قديمة، في خطوة غير معلنة، وصفتها المصادر بأنها "مفاجئة"، موضحة أن السودان طلب منذ أشهر مساعدة مصر في هذا الأمر على هامش اجتماع تنسيقي حكومي، لكن السيسي ورئيس الوزراء مصطفى مدبولي ومستشاريهما لم يعطوا الأمر اهتماماً في حينه، مما فسرته بأنها "محاولة مصرية لخطب ود السودانيين واستمالتهم في قضية مفاوضات سد النهضة المتعثرة". لكن المشكلة التي تبدو بعيدة عن ذهن دائرة القرار المصري هي أن التحرك مع السودان لا يمسّ بلبّ الأزمة، بل بالموقف الإثيوبي الرافض والمعتصم بالسيادة الذاتية على السد والمحتمي بمواقف الدول التي يشارك مستثمروها في إنشائه. أما في حال انضمّ السودان لمصر، فإن هذا لن يضعف الموقف الإثيوبي، بل قد يؤدي إلى معادلة صفرية تعود بالمفاوضات إلى المربع الأول من جديد، منذ ما قبل توقيع اتفاق المبادئ في مارس/آذار 2015.



لكن المصادر الدبلوماسية تقول إن مصر تجد نفسها مضطرة للتحرك على جميع المسارات المتاحة بالتوازي مثل العمل على الملف السوداني والترويج للرؤية المصرية في العواصم العربية والغربية، لأنها لا تستطيع النفاذ لمسار التفاوض المباشر مع الجانب الإثيوبي، الذي ما زال الأنجح في ترويج رؤيته في أوساط صنع القرار الأميركية، حتى في ظل اقتناع البيت الأبيض ووزارة الخزانة بضرورة حلحلة الأزمة سريعاً. وقللت المصادر في ديوان الخارجية من أهمية نتائج جولة وزير الخارجية سامح شكري في العواصم العربية أخيراً، مشددة على أنه سبق للإمارات والسعودية طمأنة مصر في عامي 2018 و2019 بأنهما أقنعتا الإثيوبيين بعدم الإضرار بها، لكن شيئاً من ذلك لم يتحقق. كما قللت المصادر من أهمية اللجوء إلى إسرائيل كوسيط غير معلن بين الطرفين في الوقت الحالي، مؤكدة أنها مستفيدة من حالة التوتر المصرية، فضلاً عن دخول الملف مرحلة الخطوط الحمراء المتشابكة التي فرضتها إثيوبيا على المفاوضات، والتي لا يمكن تجاوزها بسهولة، لا سيما مع استمرار التدخل الأميركي غير المجدي، والذي تبدو إثيوبيا مصرة على استبعاده الآن.

وعما إذا كان من الوارد إدخال تعديلات على الصياغة الأميركية للاتفاق، أفادت المصادر إن هذا الأمر غير مطروح حالياً، لكنه ممكن في حالة واحدة فقط، هي عودة إثيوبيا لجولة تفاوض، واحدة، مباشرة، وواجبة الحسم.
وتتمثل النقطة الخلافية الرئيسية حالياً بين إثيوبيا والصياغة الأميركية للاتفاق في اقتراح ضمان تمرير 37 مليار متر مكَعَّب من المياه لمصر في أوقات الملء والجفاف، كرقم وسط بين ما تطالب به إثيوبيا وهو 32 مليارا وما كانت تطالب به مصر وهو 40 مليار متر مكعب، على أن يُترك الرقم الخاص بأوقات عدم الملء والرخاء لآلية التنسيق بين الدول الثلاث. وهنا يأتي الشرط الذي يغضب الإثيوبيين، فمن وجهة نظرهم يتطلب تمرير 37 مليار متر مكعب في أوقات الجفاف الصرف المباشر من بحيرة سد النهضة وعدم تمكنها من الحفاظ على منسوبها عند 595 متراً لضمان التوليد المستديم وغير المنقطع من الكهرباء لمدة 7 سنوات على الأقل.

كما أن هناك اتفاقا فنيا بين السودان وإثيوبيا على ضرورة إبقاء منسوب المياه في بحيرة سد النهضة أعلى من 595 متراً فوق سطح البحر، لتستمر قدرته على إنتاج الكهرباء، وهو أمر تجادل مصر بأنه غير عادل إذا انخفض مقياس المياه في بحيرة ناصر عن 165 أو 170 متراً. وشكّل هذا الأمر مصدراً لخلاف آخر بين مصر من جهة والسودان وإثيوبيا من جهة ثانية، لأنهما لا يرغبان في الربط بين مؤشرات القياس في سد النهضة والسد العالي، وسط تأييد الخزانة الأميركية للطلب المصري.

وتدفع مصر ثمن سلسلة من الأخطاء السياسية التي تعترف بها المصادر الدبلوماسية والحكومية بالقاهرة، وعلى رأسها بطبيعة الحال توقيع السيسي على اتفاق المبادئ في مارس/آذار 2015 الذي اعترف أولاً بحق إثيوبيا في بناء السد، الأمر الذي لم تكن مصر قد بادرت به من قبل، وأقرّ ثانياً بحقها السيادي في إدارته، ولم يقرر أي جزاء قانوني دولي عليها في حال مخالفة الاتفاقات السابقة الموقعة في إطار الإدارة المشتركة لمياه النيل، خصوصاً عامي 1902 و1993.

وجاء انقلاب إثيوبيا على المسار التفاوضي ومقاطعة جولة واشنطن في ظل دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي للتظاهر ضد أبي أحمد وتداول شائعات على نطاق واسع في الشارع الإثيوبي وأوساط المعارضة في الخارج والمغتربين، تركز على أن أحمد المنتمي لقومية الأورومو، يقدم مصالح مصر وأميركا على المصالح الإثيوبية، ويعطل إنجاز مشروع السد، رغم أن الحقيقة هي أنه لولا الثورة الإدارية والأمنية التي قام بها أحمد فور وصوله للسلطة، لما كان السد قد بلغ هذه المستويات المتقدمة من الإنشاءات، بعد إبطاء لعدة سنوات بسبب سوء الإدارة والفساد.

من جهته، كشف رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايله ميريام ديسالين من الخرطوم، الشهر الماضي، عن رغبة إثيوبيا في تأجيل الاتفاق، لفترة إضافية غير محددة، لحين تهدئة الأوضاع السياسية المتوترة في إثيوبيا، بسبب الاستعدادات للانتخابات التشريعية، والتي ستشهد المواجهة الأولى بين رئيس الوزراء أبي أحمد وحزبه "الرفاه/ الازدهار" وبين قومية تيغراي التي رفضت الانضمام للحزب وما زالت حركاتها السياسية أبرز المعارضين على الساحة المحلية للتوصل إلى اتفاق حول السد.