عدنان منصور *تكتسب زيارة الرئيس الإيراني إلى لبنان أهمّية كبيرة لكونها تأتي بعد ثماني سنوات من زيارة الرئيس السابق محمد خاتمي الأوّلى له بعد قيام الثورة عام 1979، ولكونها تأتي في وقت تواجه فيه ايران ملفاً نووياً ساخناً وعقوبات قاسية فرضتها الولايات المتحدة ومن معها من الدول التي تسير في فلكها. كذلك تجيء أيضاً في وقت تتابع فيه طهران وتراقب عن كثب تطورات الأوضاع في فلسطين وسير المفاوضات الجارية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، والسياسات الاسرائيلية المتواصلة في تشديد الحصار على غزة، والاستمرار في مصادرة الاراضي في الضفة الغربية، وتهويد المناطق الفلسطينية، في ظل استحكام الخلافات بين اصحاب القضية الواحدة.
وتأتي هذه الزيارة ولبنان يواجه بدوره ملفاً ساخناً من نوع آخر، هو ملف المحكمة الدولية وما يتمحور حولها من تباين في المواقف والتوجهات بين أصحاب الشأن، قد تضع لبنان مجدداً على ابواب أزمة سياسية وأمنية خطيرة ومعقّدة لا يعرف احد تداعياتها ونتائجها على الأرض، فيما تتوجه الانظار الى حدوده الجنوبية في ظل التصريحات والتهديدات الاسرائيلية والمناورات العسكرية والاستفزازات اليومية والخروق الجوية والبرية والبحرية المتواصلة لأراضيه.
والحضور الايراني وتأثيره ليسا بعيديْن عمّا يجري في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وأفغانستان وحتى دول الخليج وغيرها. ومن هنا سيكون امام الجانبين اللبناني والايراني ملفان على جدول مباحثات البلدين: ملف العلاقات الثنائية، والملف الإقليمي.
لقد بدأ التمثيل الدبلوماسي بين لبنان وايران في أيلول 1942، بتأسيس اول قنصلية ايرانية في بيروت، وكانت على مستوى قنصلية عامة. وبعد استقلال لبنان عام 1943، رُفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين الى مستوى وزير مفوّض، وكان ذلك عام 1946، ثم الى مستوى سفير عام 1958.
شهدت العلاقات بين البلدين مدّاً وجزراً، إذ توقفت فجأة عام 1969 بسبب امتناع لبنان في ذلك الحين عن تسليم الجنرال الايراني تيمور بختيار، مؤسس جهاز الاستخبارات «السافاك» ورئيسه الذي فرّ الى بيروت. وقد دفع ذلك حكومة الشاه الى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع لبنان. وفي تموز 1971، استؤنفت العلاقات مرة اخرى بعد وساطة قام بها الرئيس الراحل كميل شمعون. وبعد قيام الثورة الايرانية في شباط 1979، اقتصر التمثيل الدبلوماسي بين البلدين حتى 1991 على مستوى قائم بالأعمال، مع الاشارة الى أن العلاقات بين البلدين سبق أن قُطعت مرة أخرى عام 1982 لمدة سنة ونصف ثم استؤنفت في شهر كانون الاول عام 1983.
ابتداءً من 1991، شهدت العلاقات اللبنانية – الايرانية تطوراً نوعياً بُعيد زيارة وزير الخارجية اللبناني فارس بويز الى طهران حيث أُعلان عن تأليف اللجنة الاقتصادية المشتركة بين البلدين، والتي عقدت اول اجتماعاتها عام 1997.
إذا ما تتبّعنا مسار العلاقات اللبنانية – الايرانية منذ قيام الثورة حتى اليوم، يمكن القول إن ايران حريصة أكثر من أي وقت مضى على السير في تنمية العلاقات بين البلدين بطريقة سليمة وموضوعية، تتحرك من خلال القنوات الدبلوماسية والرسمية آخذة في الحسبان مصلحة البلدين ومتفهمة بعمق خصوصية الحكم والنظام السياسي وطبيعة النسيج التاريخي والانساني والديني والاجتماعي والثقافي المميز للمجتمع اللبناني.
حجم التبادل التجاري بين لبنان وإيران لا يتجاوز المئة مليون دولار سنوياً
وخلال السنوات التي أعقبت تحرير لبنان لجنوبه وبقاعه المحتل من العدو الاسرائيلي، ولا سيما بعد عدوان 2006 وإفرازاته، رأت طهران في لبنان رمزاً للقوة والكرامة والصمود، وعبرة لكل العرب، ومثالاً حياً في مقاومة المحتل وتحرير الارض. هذا الواقع حثّ ايران على أن تكون مستعدّة لأي تعاون سياسي أو اقتصادي أو ماليّ أو سياحي مشترك مع لبنان، منطلقة من تعليمات مرشد الثورة ورئيس الجمهورية وتوجيهاته التي بُلّغت في حينه الى المسؤولين اللبنانيين، والتي ترمي الى شدّ أواصر العلاقات بين البلدين على مختلف المستويات، وإعطاء لبنان وضعاً تفضيلياً مميزاً في اطار التعاون الثنائي.
وبالفعل شهدت السنوات العشر الأخيرة سلسلة من الزيارات الرسمية الرفيعة المستوى المتبادلة بين البلدين، أدت إلى توقيع اتفاقيات وبروتوكولات عديدة تناولت جوانب مختلفة. أما على الصعيد السياسي، فقد اتسمت الفترة الأخيرة بمواقف ايرانية واضحة وصريحة، مؤيدة وداعمة للبنان في المحافل الدولية، لا سيما وقوف ايران بحزم بجانب لبنان في رفضه القاطع لتوطين الفلسطينيين على ارضه أو أرض أي دولة أخرى، ودعم حق اللاجئين في العودة الى ديارهم.
وفي الجانب الاقتصادي، وقّع لبنان وإيران منذ عام 1997 اتفاقيات عديدة تناولت قطاعات مختلفة تتعلق بالنقل البري والتجارة البحرية والجمارك والنقل الجوي، بالإضافة الى اتفاقية تجارية ومذكّرة تفاهم زراعي ومذكرة تفاهم للتعاون العلمي والتربوي والتقني والبحثي، واتفاقية تشجيع الاستثمارات المشتركة واتفاقية تعاون سياحي واتفاقية مالية واعتمادية وتعاونيات وإلى غير ذلك من الاتفاقيات...
يمكن القول إن الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين ما زال معظمها عبارة عن نصوص لم تشهد مضامينها بعد حيز التنفيذ المطلوب. فما يطبق منها هزيل ولا يرتقي الى مستوى العلاقات السياسية الجيدة التي تربط البلدين. إذ إن حجم التبادل التجاري بين لبنان وايران لم يتجاوز المائة مليون دولار في السنة، في الوقت الذي نجد فيه الاتفاقيات التي وقعت بين طهران ودول اخرى في المنطقة من خلال اللجان الاقتصادية المشتركة قد خطت خطوات متقدمة وأعطت أكُلها. فحجم التبادل الايراني – التركي مثلاً، كان بحدود 3 مليارات دولار عام 2000 وأصبح 10 مليارات دولار عام 2010، وسيصل، كما هو متوقع له، الى 30 مليار دولار عام 2015. ومع العراق، تجاوز حجم التبادل 4 مليارات دولار، ومع الإمارات 6 مليارات، ومع سوريا 4 مليارات، بالإضافة الى استثمارات ايرانية في مجال صناعة السيارات والطاقة والاسمنت فيها تجاوزت 3 مليارات دولار.
لبنان مدعوّ إلى البحث عن السبل الآيلة الى تطوير العلاقات في مختلف المجالات بصورة جدية وليست بروتوكولية، لا سيما في مجال السياحة والاستثمارات والطاقة بشقيها (الغاز والبترول)، والاستفادة من الخبرات الايرانية المتقدمة في القطاعات كلها، ووضع حد للتلكّؤ والإحجام المتعمد أحياناً، والخوف والحذر من دون مبرر، والذي يطرح اكثر من علامة استفهام ويثير الاستغراب الشديد، لا سيما أن هذا الإحجام ينعكس سلباً على لبنان أكثر من انعكاسه على ايران، ويلحق الضرر بلبنان اكثر مما يلحقه بإيران. فكيف نفهم مثلاً، استقبال تركيا سنوياً لأكثر من مليون زائر ايراني من دون تأشيرات، والعراق ثلاثة ملايين، والإمارات العربية مليونين وسوريا اكثر من نصف مليون زائر ايراني، بينما نجد أن عدد الايرانيين الذين يزورون لبنان سنوياً لا يتجاوز الخمسين ألف زائر!
وعلى الرغم من توجيهات كبار المسؤولين الايرانيين الذين أعربوا للمسؤولين اللبنانيين في أكثر من مناسبة عن استعدادهم وعزمهم على إعطاء لبنان وضعاً مميزاً وأفضلية لجهة ما يريده لإعادة بناء بناه التحتية وتطويرها، فإنّ هذه العروض وبصراحة لم تلقَ تجاوباً كافياً من الجانب اللبناني ولو في حده الأدنى، ممّا يطرح اكثر من تساؤل حول مدى الاستعداد والرغبة الأكيدة في تطبيق الاتفاقيات المعقودة بين البلدين نصاً وروحاً! وكأن هناك من يريد أن تظل العلاقات الاقتصادية على ما هي عليه بين البلدين من دون رفعها الى المستوى المطلوب ومن دون أن تحقق قفزات نوعية يستفيد منها الجانب اللبناني قبل الايراني، خصوصاً أن عروضاً ايرانية غير مشروطة وتسهيلات عديدة قُدّمت وعرضت على لبنان في مجالات مختلفة، منها بناء السدود والجسور، ومحطات الكهرباء والطاقة والمياه ومزارع الاسماك، وغيرها من المشاريع الحيوية للبنان، بالإضافة الى عروض من شأنها تزويد لبنان بما يحتاج له من معدّات متنوعة لقطاعاته الزراعية والصناعية والعسكرية والبيئية.
أمّا في الملف الإقليمي، فثمّة تقاطعات استراتيجية في سياسة البلدين حيال قضايا رئيسة، أبرزها الصراع العربي – الاسرائيلي الدائم بشقه الفلسطيني – الاسرائيلي، واللبناني – الاسرائيلي، والسوري – الاسرائيلي... إذ تتّخذ ايران مواقف صلبة ومتقدمة ومتشددة في دعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين، وتقف بحزم إلى جانب القضايا العربية وتناهض سياسات دول الهيمنة الداعمة لاسرائيل، بإفشالها للمشاريع الغربية التي يروّج لها على حساب المنطقة وشعوبها. كما ترفض رفضاً قاطعاً محاولات توطين اللاجئين الفلسطينيين خارج أرضهم. وهي أيضاً، ترى من موقعها ومواقفها المبدئية، أن الكيان الإسرائيلي لا يمثّل خطراً على الوجود الفلسطيني وحسب، بل خطراً وتهديداً مستمراً لشعوب المنطقة ودولها بما فيها ايران، وعلى السلام والأمن القومي لبلدانها، نظراً لما تبيّته اسرائيل من نيّات، وما تحمله من عقيدة عنصرية توسعية، وما تملكه من ترسانة عسكرية نووية تجعل الدول المحيطة بها والمجاورة لها تحت رحمة سياساتها العدوانية.
أهمية الزيارة والمباحثات، تنبع من كون لبنان يقع في قلب معادلة الصراع في المنطقة... وما يجري فيها يطاله مثلما يطال غيره. من هنا كان على لبنان أن يحصّن موقعه ويعزّزه من خلال التنسيق والتعاون مع الأصدقاء والأشقّاء الذين يقفون بجانبه وهو يواجه تهديدات العدو وأطماعه من الخارج، مثلما يواجه ملفات واستحقاقات وقضايا ساخنة ضاغطة عليه في الداخل...
إن زيارة الرئيس الايراني الى لبنان منعطف مهمّ في علاقات البلدين يستحسن أن يوظفها لبنان كما يجب. وإن اختلفت الميول ووجهات النظر في الداخل، فهي تتزامن مع استحقاقات داخلية لبنانية خطيرة قد تنسحب نتائجها الى دول المنطقة برمّتها. إن التعاطي مع دولة مثل ايران يستدعي من اللبنانيين بمختلف اطيافهم وميولهم وانتماءاتهم أن يعمقوا أطر التعاون الثنائي، بعيداً عن الحساسيات والعصبيات والخلفيات السياسية المتزمتة، وأن يتطلعوا الى مصالحهم الاقتصادية التي هم أحوج ما يكونون اليها في ظل اوضاع اقتصادية خانقة، وألّا يرهنوا ميولهم ومواقفهم السياسية لحساب مصالحهم الاقتصادية. فليأخذوا العبرة من تركيا ومن الإمارات، وحتى من الشركات الاوروبية والاجنبية التي ترفض وقف التعاون مع ايران حفاظاً على مصالحها المالية والاقتصادية بمعزل عن مواقف دولها السياسية حيال ايران... فكيف الحال إذا كانت مصلحة لبنان مع دولة صديقة مثل ايران، تلتقي معه وتدعمه في قضايا ومسائل جوهرية ترتبط مباشرة بأرضه وسيادته وأمنه القومي، وبصراعه مع عدو شرس دائم، يتربص به على حدوده الجنوبية، وتدعوه الى تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياحية والثقافية والتجارية وتقويتها لما فيها مصلحة البلدين!
هل تؤدي زيارة نجاد الى قفزة نوعية – وهي ضرورية جدا – في مسيرة العلاقات بين لبنان وإيران؟ الجواب عند بيروت قبل طهران.
* سفير لبنان السابق في إيران