د. إيمان موسى تكتب | ماذا فعلت فينا حرب غزة؟

0

كثيرٌ منا شعر بالصدمة، يوم السابع من أكتوبر الماضي، فرحة عارمة بداخلنا وإحساس بأننا نرغب في مشاركتهم ولو بالتفاعل على وسائل التواصل الإعلامي “السوشيال ميديا”، وبدأ المصريون كعادتهم في تحويل الحدث لنكات وفكاهة على الصفحات المختلفة، وشعور يتأكد بداخلنا بعد نصرة أكتوبر العظيمة في عام 1973 بأن عدونا “هش وجبان وضعيف” ولم يكن أبداً يوماً ما “عدو لا يقهر”.
فقد انتصرت الأدوات العسكرية البسيطة للمقاومة الفلسطينية على مؤسسات استخباراتية وعملياتية لجيش يصنف أنه من أفضل 18 جيش حول العالم. هذه النصرة تشابهت في سياقات الرأي العام ووسائل الإعلام مع نصرة 6 أكتوبر العظيمة، لأن الهدف واحد، استعادة الأرض المحتلة من عدو شديد الرعونة يسير وفق أجندة دينية متشددة، تقوم على فكرة ” أرض الميعاد” وهي فكرة شيطانية إن شئنا وصفها بوصف دقيق.
لم تكن استعادتنا للأمل الذي تجسد في أن المقاومة في فلسطين مازالت حية، سبب الصدمة، بل كان هناك أسباب كثيرة داخلية وخارجية، كان الدافع وراء هذا التساؤل: ماذا فعلت فينا حرب غزة؟
كان يوم 7 أكتوبر بمثابة موقف كاشف لمتغيرات كثيرة أصبحت موجودة من حولنا لا نلتفت إليه، على المستوى المحلي، رسخ لدى يقين وضمير وعقول المصريين بأن لهم درع وسيف مثلما قالها الرئيس الراحل محمد أنور السادات بصوت جهوري في البرلمان المصري بعد نصر أكتوبر العظيم، فقد لاقت “كلمة مصر” أي كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في حفل تخرج الكليات العسكرية قبولاً وترحيباً وفرحة لدى المصريين، وجاءت تصريحات سيادته بعد يوم 7 أكتوبر في ظل الإشارات المتتالية من جانب القوى المعادية بالتلويح بملف سيناء وتهجير الفلسطينيين إليها وتصفية القضية الفلسطينية، بمثابة طلقات نارية مرتفعة الصدى، للدرجة التي جعلت القنوات الفضائية المعادية التي ظلت لأكثر من 10 سنوات تعادي الرئاسة المصرية في حلقاتها اليومية، تصطف إلى جانب المصريين في تأييدها لقوة تصريحات رئيس الجمهورية، والتي هي تصريحات مصر في ذات الوقت، وذلك بغض النظر عن النوايا الخفية وراء هذا الموقف.
تأكد المصريون كذلك، أن مصر لن تستطيع أي قوة إقليمية تحاول سرقة دورها ” كأكبر دولة عربية” ولقب “الشقيقة الكبرى” من انتزاع هذه المكانة، فبمجرد اندلاع الأحداث صدرت تصريحات الخارجية المصرية، والتي لحقتها وتماشيت معها بعد تصريحات الدول العربية.
والتي عهدت أن تمشي في ظل مصر في مثل هذه الأحداث. فكلمتها كلمة مصر، وموقفها هو موقف مصر، وهذا ما نطقه لفظياً رئيس حركة حماس في أحد تصريحاته.
رسخ في أذهاننا داخلياً، أننا كمصريين وحدنا في مواجهة الجميع، وأن الدعم العربي بدأ يتلاشى مع قرار بعض الدول الشقيقة في التركيز على نفسها داخلياً، وعدم الزج بنفسها كطرف في الأحداث العربية، فقد صرح مجلس التعاون الخليجي أن سلاح البترول لا يمكن استخدامه كوسيلة في أي حروب. كما اتسمت تصريحات دول عربية أخرى بالحياد في ظل إقبالها على توقيع معاهدات تطبيع مع إسرائيل.
اكتشفنا أيضاً أننا الدولة الوحيدة التي لم تقوم بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، في الوقت الذي تغنى الكثير من المغرضين داخلياً وخارجياً بأن مصر أول من وقعت على معاهدة سلام مع إسرائيل، وكيف لا يحدث، ومصر هي الدولة الأكثر تهديداً من هذا الكيان، الذي لا يتهاون عن النظر إلى سيناء كحق لبني إسرائيل، هذه الدعوات الشيطانية التي أصبحت تذاع بمنتهى التبجح في وسائل الإعلام، وتحولت لخطط تسعى إسرائيل لفرضها بالقوة.
قرت أعيننا بأن المصريين معدنهم لا يتغير عبر الزمن، فالمصري بالداخل هو المصري بالخارج، فقد أثرت تصريحات المؤثرين والمشاهير من المصريين موجات من الدعم الغربي، وتغير في انطباعات ومعلومات المواطنين في الغرب عن القضية الفلسطينية. وكيف أن التحول الذي حدث مع هجرة العرب والمصريين أحدثت تغييرات جوهرية في الهيكل الاجتماعي بل والسياسي، فهناك نشاهد اعتصاماً لدعم غزة في الكونجرس الأمريكي، ثم نقرأ في الاخبار مجموعة من أعضاء البرلمان في بريطانيا تدعو لوقفة احتجاجية للدفاع عن غزة وعدم معاداة المسلمين، وإن كان هناك أهداف انتخابية أخرى بشأن هذه التحركات، فلا يمكن أن نغفل هذه النقاط المضيئة في وسط عتمة الانطباع الغربي عن الإسلام والمسلمين.
ثم نصل إلى التلبية الفورية من جانب المصريين لدعوات التظاهر التي دعى إليها السيد الرئيس لرفض تهجير الفلسطينيين إلى غزة ورفض القضاء على القضية الفلسطينية، وامتلاء الميادين والجامعات بالشباب المتحمس للقضية والواعي لخطورة ما يحدث.
هذه التظاهرات التي حققت نتائج فورية إيجابية في جعل العدو الصهيوني يتراجع ويسمح بدخول المساعدات إلى قطاع غزة بعد إعلانه بساعات عن انه سيقف لمصر في ذلك إذا ما حاولت إدخال المساعدات، هذا النجاح كان نتيجة لتلاحم الغضب الشعبي مع جهود الأجهزة المخابراتية والدبلوماسية المصرية، التي لا تتردد في إظهار مدى قوتها وحجمها الضخم وحكمتها في معالجة القضايا الحرجة على مدار الزمن بعقلانية وثبات وقوة حجة، وبدون “جعجعة” فارغة غير ذات تأثير فعال وحقيقي على أرض الواقع.
لم يقم المصريون بحرق سفارات أو إحداث أعمال تخريبية، بل تظاهروا في رقي وبحمية تدل أن مصر تغيرت، وأن الثقافة المجتمعية نتيجة لشفافية مؤسسة الرئاسة في شرح كافة القضايا للمواطنين علانية وبكل تفاصيلها، لأن هذا حق المواطن، وهو ما يجعله يقف خلف قيادته السياسية في المواقف المختلفة.
الأحداث مازالت مستمرة، ولم تنتهي الحرب بعد وأنا أكتب هذه الكلمات، ولكن ما قد انتهيت إليه، أننا مثلما قال الدكتور الراحل ” أحمد زويل” لدينا كمصريين “جينوم” خاص بنا لم يجدوا له مثيل في أمم أخرى. هذا الجينوم هو ما يجعل لنا طراز خاص، نمصر كل ما يأتي إلينا ونضيف إليه ثقافتنا وخفة ظلنا وحكمتنا التي عبرت إلينا من أجدادنا، ثم نقدمه للعالم كأنه لم يكن موجود من قبل وكأننا اخترعناه.
قالوا ذلك عن خطة حرب أكتوبر في الكليات وأكبر الأكاديميات العسكرية حول العالم، وجاءت على ألسنة من يحسبون أعداء لمصر. قالوا ذلك عن ثورتينا في 2011 و2013 بأننا حافظنا على وطننا من أهل الشر بمنتهى الحكمة، بعد تيقننا أن تدخل الجيش كان الحل، وليس “المتأسلمين هم الحل”. قالوها عن مواطن مصري بسيط في تعليقاتهم على مداخلة “باسم يوسف” في أحد برامج “التوك شو” الأمريكية، قالوها بتعجب في دولنا العربية حينما رأوا رد فعلنا عما شهده “محمد صلاح” غضب أهله من المصريين في تأخره عن مساندة فلسطين، وكيف أنه بدعمه سيغير الواقع.
وللحديث بقية عندما ينتهي العدوان على غزة، وينتصر الله لإخواننا في فلسطين، ونجلس لنروي قصص ودروس، عهدناها وستظل تحكى عن عظمة المصريين حينما يتعلق الأمر “بالأرض المصرية” ومدى تعلقهم بالقضية الفلسطينية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.