<img height="1" width="1" src="https://www.facebook.com/tr?id=977405759725534&amp;ev=PageView&amp;noscript=1">

حتى الزفير الأخير!

سعدون محسن ضمد 2012/10/24 06:30:00 م

حتى الزفير الأخير!

أحب، قدر المستطاع، أن أواكب بحوث الفيزياء، فهي فاتنة لأنها تصدمني دائماً، خاصَّة عندما تضرب مسلماتي الفكرية بقسوة بالغة دون أن تبالي بما يحدث لي بعد ذلك من قلق وأرق.

كما أنني أحب مشاكسة المفاهيم، أحب ملاحقة كل مفهوم إلى باب داره، ليقيني أن أغلب المفاهيم بلا بيوت تسكنها معان محددة.. قبل أيام كنت أطالع كتاباً فيزيائيا ممتعاً، وقد أعادني لموضوع قد ناقشته مطولاً مع بعض أصدقائي، هو موضوع وقوع حدث ما، الذي يفتح الباب على مناقشة مفهوم الحدوث نفسه، فما معنى قولنا إن الأمر الفلاني قد حدث اليوم؟

حسنٌ، يبدو على الموضوع أنه ساذج لأول وهلة، اعترف بذلك، لكن، أليس هذا هو حال جميع المفاهيم، الأعم الأغلب منها على الأقل، أقصد أنها تبدو واضحة الدلالة بشكل تام ثم بعد أول عمق من أعماق الفحص الدقيقي ينكشف عري هذا الوضوح؟ الكتاب المقصود يتحدث عن الوقت الذي يلزم لوصول تأثيرات أي حدث يحدث داخل الكون، خاصة عندما يكون الكلام عن المسافات الهائلة، فحين ينفجر أقرب النجوم إلينا ـوالمسافة الفاصلة بيننا وبين أقرب النجوم أكثر من أربعة ملايين سنة ضوئيةـ فإن الإشعاعات التي تنطلق من هذا النجم ومختلف أنواع الموجات والتأثيرات التي تحدث بسبب انفجاره، والتي تنطلق بنفس سرعة الضوء، ستصل إلينا بعد أربعة ملايين سنة!! وربما هي لن تصل إلينا، فأربعة ملايين سنة، زمن هائل، قد لا تبقى فيه الأرض موجودة ولا حتى المجموعة الشمسية.

طيب لنعد لمفهوم الحدوث ونسأل: هل حدث انفجار النجم الآن، أم أنه سيحدث بعد أربعة ملايين سنة؟ ها هنا تكمن السذاجة الخادعة، فمن الطبيعي أن نجيب بأن الانفجار حدث بالتأكيد إلا أن آثاره لم تصل إلينا، ما يعني أن نجم (سنتوري أو قنطوري) وهو الأقرب لنظامنا الشمسي، لم يعد له وجود.. لكن مهلاً أصدقائي فالموضوع ليس بهذه البساطة. فهذا النجم يؤثر فينا كل لحظة، بموجاته وإشعاعاته وحتى جاذبيته التي تصلنا ضئيلة جداً، لكنها تصل، وستبقى تصل وتؤثر فينا لأربعة ملايين سنة. فكيف نحكم بعدم وجوده؟

ألم أقل لكم أن بعض المفاهيم لا تمتلك بيوتاً تسكنها معان محددة الدلالات؟ فمفهوم الحدوث يبقى واضحاً لأننا نستخدمه بحدود عالمنا الصغير جداً، ونحن كائنات غاية بالصغر ونعيش على سطح كوكب لا يكاد يشغل إلا حيزاً تافها في هذا الوجود الهائل، أما خارج حيزنا الصغير، فلا تعمل معظم مفاهيمنا، والتشويش هنا لا يقتصر على مفهوم الحدوث، بل ومفهوم الوجود، فنحن لا نعرف الآن إن كان نجم (سنتوري) وبقية النجوم موجودة أم لا، فمن يدري ربما هناك عوالم نجمية اختفت قبل ملايين السنين ونحن لم نزل نبحث باحتمال وجود الحياة فيها، لأن مراصدنا لم تزل ترصدها إلى الآن!

الآن دعني افشي لك سراً يا صديقي: امسك معول التأمل واضرب به أقرب الأماكن منك، وستنفجر بوجهك علامات استفهام من هذا العيار وأثقل، لكنك لن تؤمن بعدها بأي من الوصفات المعرفية الجاهزة التي تتقافز من حولك وتدعي قدرتها على تفسير كامل رحلة الوجود، ومنذ الشهيق الأول وحتى الزفير الأخير.

تعليقات الزوار

  • ghaith alkhzrajy

    عندما كنت شابا عشقت الفلسفه وعندما كبرت صرت ميالا للبساطه لذلك عندما اقرا لك اجد فيك نفسي ولكن اتمنى ان تتساهل معنا (ترى تعبتنا)

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top